عبّرت الكاتبة والروائية العمانية بدرية البدري عن إعجابها بالحراك الثقافي الذي تعيشه المملكة، وقالت في حوارها مع "الرياض": في الحقيقة لا أملك إلا أن أغبط المثقف السعودي على هذا الحراك، الذي أثمر الكثير من المشاريع التنموية ثقافياً، أهمها هيئة الأدب والنشر والترجمة، والتي تقوم بدور جبّار لخدمة الأدب عموماً وليس السعودي فقط، وتضيف: ولا أنسى تخصيص عام 2023م عاماً للشعر العربي، ومسابقة المُعلّقة التي أعادت لذاكرة المثقف العربي المعلّقات التاريخية، والمقاهي الأدبية، ومعتزلات الكتابة التي أتاحت للكثير من أدباء الوطن العربي فرصة للانفراد بأنفسهم، والاعتكاف على مشاريعهم الأدبية، والالتقاء بكُتّاب آخرين يشاركونهم كتابة الجنس الأدبي نفسه. وتعتبر البدري أن كل هذا الوعي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج رؤية مستقبلية جادة حددتها رؤية 2030، وعقول أدباء سعوديين لهم وزنهم في الساحة الأدبية العربية. وقد أفاضت الكاتبة بكثير من شجون الثقافة في الحوار التالي: *- كانت لك عدة زيارات إلى المملكة.. حدثينا عن ذلك؟ * الحقيقة أن أغلب زياراتي للمملكة كانت بغرض أداء العمرة، وزيارة المسجد الحرام، والمسجد النبوي، ورغم أني في آخر زيارة خصصت وقتاً للرياض، إلا أنه كان أقل مما يليق بمدينة كالرياض، ولم تكن في وقت موسم الرياض للأسف. في زيارة أخرى شاركت في أمسية عمانية سعودية في معرض الرياض الدولي للكتاب 2023م، ورغم أنني مددت إقامتي للتعرف على المدينة، إلا أنني لم أنجح بخطتي بسبب قلة خبرتي؛ فقضيت أيامي كلها بين الفندق والمعرض. أود لو أني استطعت أن أحدثك أكثر، عن جدة السارحة مع الغيم في خيالي، عن العُلا، والشرقية، عن الدمام، والظهران، ومركز إثراء، عن كل مكان وددت الذهاب إليه في المملكة، ولم يسعفني الحظ لزيارته، ولكن لعلها الأيام تحمل في طياتها زيارة قريبة تمر بي على كل هذه الأمكنة. *- كيف ترين الواقع الثقافي العربي ومستقبل الكتابة للأجيال الجديدة في ظل ثورة المعلومات التي تشهدها المنطقة والعالم؟ * هذا السؤال واسع جداً، والإجابة عليه فضفاضة إلى الحد الذي يستحيل حصرها في رد بسيط، ولكني سأتناولها من ثلاثة جوانب: الأول: الكاتب الذي يكتب لقارئ اليوم والغد وما بعد غد، من خلال الفكرة الاستثنائية، والمعالجة الجاذبة، وحتى النشر المختلف والمُنوّع. الثاني: الكاتب الذي يكتب وفق قناعته فقط، وهذا إما أن ينجح في الوصول إلى القارئ المتوافق معه فكريًا، أو شد القارئ بطريقته التي لا يمكن إلا الاستسلام لها. الثالث: الكاتب الذي يكتب ما يطلبه القارئ، وهذا غالباً ما يوجه كتبه لفئة المراهقين؛ فيكسب شريحة كبيرة من الجمهور، ولكنه جمهور تجاري (إذا الريح مالت مال حيث تميل). إجمالًا يمكن القول إننا أمام سلاح ذي حدين؛ ففي الوقت الذي سحبت فيه التقنية البساط من أرفف المكتبات، لا يمكننا أبداً إنكار فضلها في إيصال الكتب والمنشورات عموماً إلى كل أرجاء الأرض، وإيجاد التواصل المباشر مع الكُتّاب والمترجمين والقراء. *- هل للشعر تأثير على الرواية لتكتب بنفس شاعري؟ * الأمر يعتمد على الرواية، وفكرتها، وأحياناً المقطع المكتوب، ولكني لا أُحمِّل المشاهد ما لا تحتمله؛ فالرواية ليست قصيدة. *- كيف نستطيع أن نجعل من الإبداع طريقنا للتغيير لعالم أفضل؟ * الكاتب صاحب رسالة، وكما أبلغ الرسل رسالة الله إلى البشرية؛ فصنعوا التغيير، وجب على الكاتب أن يحمل الرسالة التي وهبه الله شرف نقلها بالموهبة التي منحه إياها، وأن يكون معول بناء، وأداة تغيير نحو الأفضل. *- هل تتفقين مع من يرى قلة اهتمام الأجيال بالكتاب العربي؟ * لدى البعض عقدة الكاتب الغربي، وللأسف هذه العقدة موجودة أيضًا لدى القارئ الغربي، ولكن بصورة عكسية؛ ففي الوقت الذي يظن فيه القارئ العربي أن الكاتب الغربي أفضل من العربي، ينظر القارئ الغربي إلى الكاتب العربي ككاتب من الدرجة الثالثة، حتى إنه لا يفكر بالقراءة له، ولو جرّب لربما غيّر رأيه. للكاتب أيضاً دور في هذا الجانب؛ فهناك كُتّاب لا يقرؤون للكاتب العربي، لذات السبب، وهناك كُتّاب غير مجتهدين، يُصدّرون للقارئ كتباً لا يتقبلها المثقف العربي، الذي يرغب بقراءة كتب تحترم وعيه ونضجه الثقافي. طبعًا أنا هنا لا أعمم؛ فهذه استثناءات بدأت تقل، مع زيادة وعي القارئ بجودة ما يقدمه الكاتب العربي، وكذلك اهتمام الكاتب العربي بتجويد ما يقدمه للقارئ. *- كيف ترين التجربة الروائية في المملكة؟ * التجربة الروائية والشعرية أيضًا في المملكة تجربة استثنائية، وفارقة، سواء على مستوى الأعمال أو الأقلام الروائية والشعرية. *- ماذا يعني لك الفوز بجائزة كتارا الشعرية؟ * الفوز بلقب شاعر الرسول هو حلم كل شاعر، فما بالك بأن أكون أول شاعرة تحصل على هذا اللقب، لقد كان الأمر أشبه بالحلم الذي قال له الله كُن؛ فكان. أما الجوائز عموماً فهي إثبات وجود في عالم ينظر للجوائز كجواز مرور للكاتب. *- ما الذي يستفز بدرية البدرية كشاعر وروائية؟ * أينما وجد الوجع الإنساني وُجدت روحي تحوم حوله، وتُظلل أصحابه، لا يمكنني تخطي الألم في وجوه الناس، ولا العبور دون الالتفات لأولئك الذين لا أحد لهم، تدوسهم الأقدار وهم يصارعون من أجل البقاء. الحروب والكوارث والموت بكل صوره، والطرق التي تؤدي إليه، المادي منه والمعنوي، العنصرية، والظلم، والجوع، والقهر، وغيرها. كل هذه الأشياء تجعلني أقف حائرة، ما الذي يمكنني فعله، ولا أجد إلا قلمي الذي يتحول إلى رجل أمن يقف وسط الدمار، محاولاً توجيه البشر إلى الجهة الآمنة من الحكاية، تلك العامرة بالحب والضحكات والحُلم. *- أين تجدين نفسك أكثر في الشعر أم الرواية؟ ولماذا؟ * أنت تسألني السؤال الأصعب، فأنا لم أختر يومًا ما أكتبه؛ لأن الأفكار تأتي بحلتها، وأنا لست من النوع الذي يجلس ويفكر ويخطط لكتابة قصيدة مثلاً أو رواية، ولكني أمضي في الحياة حتى تتلبسني الفكرة؛ فأقبض عليها بروحي، محاولةً بناءها البناء الذي يليق بها؛ لتصبح وجهًا آخر لي في هذه الحياة. *- حدثينا عن تطور الرواية في عمان؟ وما دور الإعلام فيه؟ * الرواية في عمان حديثة النشأة، إذ إن أول رواية عمانية هي رواية ملائكة الجبل الأخضر لعبدالله الطائي، والتي طبعت عام 1958م، تلتها الرواية العمانية الثانية للطائي أيضًا والتي حملت عنوان الشراع الكبير بعد أكثر من عقدين، ثم رواية رجال وجليد للكاتب سعود المظفر عام 1988، بينما تأخر الأدب الروائي النسائي العماني في الظهور حتى عام 1999 برواية الطواف حيث الجمر للكاتبة بدرية الشحي، ثم توالت الأعمال الروائية رغم قلّتها، إلا أنها لم تحقق الانتشار الذي تستحق حتى فازت رواية "سيدات القمر" بنسختها المترجمة إلى الإنجليزية، والتي ترجمتها مارلين بوث بجائزة البوكر الدولية، فكان هذا الفوز بمثابة مصباح سحري خرج مارده ليحقق حلم الروائي العماني، بأن يكون الأدب في عمان حديث العالم، وإن كان برواية وحيدة؛ حيث تسابقت وكالات الأنباء، والصحف، والمجلات للكتابة عن الرواية، وعن هذه الروائية القادمة من بلد اسمه سلطنة عمان؛ فبدأت القراءات النقدية الفاحصة للرواية تظهر، وبدأت الدعوات والاحتفاءات بهذه الرواية في دول كثيرة، كما بدأت حركة الترجمة لهذه الرواية تأخذ وتيرة سريعة؛ فتمت ترجمتها بعد الفوز إلى لغات عدة منها الفرنسية التي فازت على إثرها بجائزة الأدب العربي في فرنسا عام 2021م، والروسية والفارسية وغيرها من اللغات، وهنا يجب علي الإشارة إلى أن رواية سيدات القمر صدرت عام 2010م، ولكن بكل أسف لم يلتفت لها عربياً ولا حتى محلياً، ولم يتم قراءاتها بما تستحق - وانتظرت هذه الرواية ما يقارب العشر سنوات حتى يتم الالتفات إليها - وحدث ذلك بعد ترجمتها للغة الإنجليزية. *- ماذا لو كان هناك عمل حقيقي على الرواية العمانية وكانت هناك حركة ترجمة توازي التطور والنضج اللذين وصلت لهما الرواية العمانية؟ * لدينا أسماء تكتب باشتغالٍ عميق في مجال الرواية وإن كانت قليلة لكن بإمكانها صنع الفارق والانتقال بالرواية من دائرة التأثر إلى التأثير على الآخر، وهنا أذكر فوز رواية "دلشاد" للكاتبة بشرى خلفان بجائزة كتارا بعد وصولها للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وفوز رواية "تغريبة القافر" للكاتب زهران القاسمي بالجائزة العالمية للرواية العربية، كما فازت رواية "الحرب" للكاتب محمد اليحيائي بجائزة كتارا، في حين وصلت روايتا "سر الموريسكي" للكاتب محمد العجمي و"لا يُذكرون في مجاز" للكاتبة هدى حمد إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، التي وصلت لقائمتها الطويلة أيضاً في قسم أدب الطفل والناشئة رواية "سموثي المغامر" للكاتبة بدرية البدري، والتي وصلت روايتها "فومبي" للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، وقبل كل هؤلاء، وفي العام 2008م وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة رواية "تبكي الأرض يضحك زحل" للروائي الراحل عبدالعزيز الفارسي. إذاً الأدب العماني حاضر بقوة، ولكن كيف حضر؟ ومن الذي أسهم بهذا الحضور؟ الإجابة الصادمة لهذا السؤال أن العمل هنا اجتهاد فردي من الكُتّاب، في ظل غياب كبير أو حضور باهت جداً للمؤسسة الإعلامية، رغم أهمية الإعلام في تسليط الضوء على الصورة التي يجب نقلها إلى العالم. *- اشتهرت روايتك "فومبي" في العالم العربي حدثينا عنها؟ * لقد بدأت شرارة الرواية في عقلي حين قرأت عن "بينغا" الذي أصبح لاحقًا أحد أبطالها، ولا يمكن أبداً أن أصف حجم الألم الذي شعرت به وأنا أقرأ عن "بينغا" الذي تم أسره بعد قتل جميع أفراد قبيلته، بمن فيهم أسرته، وترحيله إلى أوروبا ليُعرض في حديقة الحيوان، ووضع في قفص القرود، كتمثيل للسلالة الانتقالية بين القرد والإنسان. لا أفهم كيف يمكن "للإنسان أن يفعل ذلك، وكيف "لإنسان" أن يحتمل ذلك. الإنسانان هنا كانا على طرفي نقيض؛ فالأول تخلّى عن إنسانيته طوعاً، والآخر اغتُصِبت إنسانيته كُرهًا، وما بينهما كان "الإنسان" يموت. هذه الحادثة أخذتني إلى ظروف أسر "بينغا" وبيعه، والاستعمار البلجيكي للكونغو، وأردت أن أقول: قبل أن ترتكب جريمتك، فكر قليلاً، وتذكر أن التاريخ لا ينسى، ولا يرحم. فومبي رواية إنسانية، بطلها الإنسان، تناولت فيها فترة زمنية فائتة، تمثّلت في القرن التاسع عشر، والاحتلال البلجيكي للكونغو، وما رافق ذلك من قتل واستعباد ونهب للثروات تحت ذريعة تحرير الإنسان ونشر الحضارة، وهي الحجج التي يبرر بها المستعمِر جريمته، ورغم أن الرواية تناولت تلك الفترة إلا أننا لو نظرنا إلى العالم اليوم لوجدنا الحرب ذاتها، الظلم والتهجير والموت في أبشع صورها تتكرر. في الحرب كلنا خاسرون، المُعتدي، والمُعتدى عليه، والمُتفرّج عليها من بعيد، العاجز عن فعل شيء لردها. كلنا يذوي نور ما في أرواحنا مع كل روح تصعد إلى الله، ولسان حالها يقول: "بأي ذنبٍ قُتلت"؟ الشاعرة بدرية البدري