حين أطلق الفيلسوف الإغريقيّ سقراط، حكمته «اعرف نفسك» كان يرى إلى أنّ قيمة الوجود الإنسانيّ تأتي من الإنسان نفسه؛ أي من وعيه بذاته، وبنائه المعرفيّ الذي ينطلق من واقعه المدرك والمعيش. «اعرف نفسك» هكذا يبدأ التغيير، ويبدأ التأسيس لكلّ من رام التحليق في فضاء الإبداع، والقوة، والخلود منطلقاً من لحظة الصدق مع الذات وإدراكها لذاتها، وإمكاناتها، ومحيطها، وعناصر القوة في كلّ ذلك؛ ليعي الإنسان نفسه، وقيمته، ومعناه في الوجود، وهو ما يتقاطع مع قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: قيمة كلّ امرئ ما يحسنه. بهذا فلا يمكن للمبدع أن يتخطّى شروط وجوده الأوليّة، الاجتماعيّة، والتاريخيّة، والاقتصاديّة والوجدانيّة والثقافيّة؛ فما من مبدع أصيل تنكّر لمكوناته الأوليّة، وتجاوز معطياته الإبداعيّة، وتمثّل عناصرها الحيويّة التي نبتت عليها تجربته، لينغرس فيها ويحاورها حوارًا أصيلًا، ويرصد قضاياها التاريخيّة، وقيمها الحضاريّة بأدواته الإبداعيّة المعاصرة، ورؤيته المستقبليّة؛ بغية انتقاء تراثه الخاصة، القابل للحياة والتطور؛ فهو ما سيرافق رحلة إبداعه، ويشكّل مادة تجربته، ومناط رؤيته. لم يكن الشّاعر الجاهليّ لينطلق في مسيرته الإبداعيّة إلّا من لحظته الذاتيّة، والوجدانيّة الخاصّة به المشكّلة لمعالم تجربته الإبداعيّة، بدءاً من هاجس الترحال، والتنقل في بيئته ومحيطه ومفرداته؛ فكانت المقدمات الطلليّة، ووصف الرحلة، والناقة، وفراق الأحبّة من أبرز عناصر بناء القصيدة الجاهليّة، ومن أبرز معالم إبداعها وخلودها. كذلك كان دأب الشّعراء المعاصرون أصحاب التجارب الإبداعيّة العميقة، فهم لم يتجاوزوا معطيات شروطهم الإبداعيّة الذاتيّة، والمحليّة ، فعبقُ الياسمين الدمشقيّ، وحارات دمشق القديمة وأزقتها، كانت جميعها المادة الأوليّة التي شكّلت تجربة نزار قباني الشعريّة، ومعينه الذي غرف منه، وظلاله الجماليّة التي كست كثيراً من صوره الشعريّة بحضورها الدائم، والمتجدّد، وجناحيه اللذين حلّق بهما إلى مناطق شعريّة بعيدة عن عشه الشعريّ الأم. وكان حداء العيس وعبير الخزامى، ومفردات البوادي، والصحارى من المواد الأساسيّة المؤسّسة لتجربة الشاعر محمد الثبيتي، كما أنّ عالميّة نجيب محفوظ الروائيّة لم تتجاوز في بنيتها الأوليّة حارات القاهرة القديمة، وأحاديث مقاهيها، وثرثرات نيلها؛ ليوصلها في لحظة تألّق إبداعيّ إلى أفق العالميّة، فكانت تلك التجارب المحليّة والذاتيّة جميعها سرّ نجاح أصحابها وانطلاقها إلى العالميّة عبر بوابة الإبداع. إنّ الإبداع الذي لا يخلص لشروط إنتاجه التاريخيّة، والاجتماعيّة، والمحليّة، والذاتيّة ويتجاوزها إلى آفاق إبداعيّة أرحب لن يكتب له الخلود، وسيكون مشوّهاً؛ لذلك ينبغي لكلّ مبدع أن ينطلق من نسقه الداخليّ، ومن بيئته الخاصة؛ ليبني أدواته الإبداعيّة، ويؤسس لتجربته الإبداعيّة، ساعياً إلى تحويل الرتابة اليوميّة، وتفاصيلها العاديّة إلى إبداع استثنائيّ، يتجدّد، ويتجاوز نفسه باستمرار، إضافةً إلى تحلّيه بحسّ تاريخيّ واجتماعيّ، يستجيب إلى نداء المستقبل الساكن في ضميره الفرديّ، والجمعيّ، والمشكّل لرؤيته، وهذا يتطلّب فعل مقاومة إبداعيّ، وحساسيّة من أشكال الحضور العاديّ في واقعه، الذي لا يلقي لتفاصيله المنسيّة بالاً إلّا المبدع الذي يستخرج من تفاصيله اليوميّة المعيشة جواهر إنسانيّة خالدة، تشكلّ عنوان إبداعه، وخلوده، محوّلاً الهامشيّ إلى المتن، فكم من عاشق رأى غابات النخيل ساعة السّحر لكنّه لم يصف عيني محبوبته بغابات النخيل كما وصفها السّيّاب: عيناك غابتا نخيل ساعة السّحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر