يأتي شهر رمضان المبارك حاملًا معه ذكرى وجوهٍ عزيزة رحلت، وفيضًا من حكايات لا تنضب، نسجتها خيوط حبّ وحنان، وطفولة وشباب، وأمكنة وحارات شهدت بدء صيامنا، وتشكيل وعينا ووجداننا. الأبعاد الإيمانيّة والروحانيّة لشهر رمضان المبارك معروفة متداولة ومشهورة بيّنة؛ وحسبه أنّه ركن الإسلام الرابع، وأنّه قد تميّز عن كلّ أعمال الطاعة في كونها جميعها تجري بمشهدٍ من الخَلْق ومرأًى إلّا الصوم فلا يراه إلّا الله عزّ وجلّ فهو عمل في السرّ الباطن لا يعلمه إلّا الباري. أمّا هنا فسيكون الوقوف عند أبعادٍ ثقافيّة ونفسيّة لشهر رمضان المبارك تتضمّن أثره على الفرد والأسرة والمجتمع، فإيقاع الحياة السريع والمتنوع، وطبيعة الأعمال المختلفة تجعل من الفرد عالمًا مستقلًا حتى على مستوى الأسرة الواحدة؛ لتختلف مواعيد تناول الطعام بينهم، ويتعذّر اللقاء اليوميّ إن كان ثمّة لقاء في زحمة الانشغالات الوظيفيّة، والتفاصيل الحياتيّة؛ ليأتي شهر رمضان ويعيد ترتيب كلّ الأوراق والتفاصيل، والمشاعر والمشاريع. فتتقلّص النزعة الفرديّة والانكفائيّة عند الفرد؛ فيعيد رمضان اندماج أفراد الأسرة، فيأتي موعد الإفطار والأسرة مجتمعة متعاونة على سفرة واحدة، وفي زمن واحد، يتناولون طعامهم الواحد بأجواء روحانيّة متماثلة، وغاية إيمانية واحدة تنشد الأجر والمثوبة من ربّ رحيم، فشهر رمضان مناسبة لتجدّد الروابط الأسريّة، وتدعيمها عبر الاجتماع على مائدة الطعام وما يرافقها من أنس ومحبّة، ومشاعر وجدانيّة متقاربة. كما أنّ شهر رمضان يفيض على المجتمع قوةً وتماسكًا عبر توحيد المشاعر والأحاسيس العامة، فالجميع يشعر بالجوع، وهم صابرون محتسبون الأجر والثواب، وموعد الغروب والأذان، في وحدة اجتماعيّة وشعوريّة تزيد الألفة بين الأرحام والجيران، وبين أفراد المجتمع الواسع في مشهد تفتقر له كثير من الدول والأمم، بل إنّها تأمله، وقد عبّر كثير منهم عن جماليات المشاهد الرمضانيّة التي تقرّب المشاعر، والأحاسيس الإنسانيّة والنفسيّة المضمرة، وتوحّد العادات الاجتماعيّة المعلنة من فطور وسحور وصيام وقيام للصلاة في مشاهد تسرّ الناظرين وتبهج المتأملين. ثمّة أثر آخر لشهر رمضان المبارك، له وظيفته البنائيّة على صعيد الفرد والمجتمع يتمثّل بقابليّة التغيّر والتغيير التي تعدّ من أبرز القيم المساعدة في عمليّة البناء الفرديّ والمجتمعيّ؛ إذ سرعان ما تتبدّل عادات فرديّة، وسلوكيات مجتمعيّة، وساعات وظيفيّة، ومواعيد النوم والطعام والاجتماع واللقاء بكلّ سلاسة ورفق، وقبول وشكر؛ فشهر رمضان فرصة لتعديل السلوكيات الخاطئة، والعادات المضرة نفسيًّا، أو صحيًّا التي كان يظنّ أصحابها أنّها صعبة التغيير أو مستحيلة التبديل فإذا هي هيّنة طيّعة عند وجود العزم والإرادة، الأمر الذي من شأنه أن يسهم في تطوير الذات النفسيّة والصحيّة، وفي نماء المجتمع وازدهاره، وتحسين جودة الحياة فيه. إنّ جماليات شهر رمضان المبارك كثيرة ضافية، وربّما غابت عمّن تعودها، مع أنّه يدرك أثرها وتجلياتها في علاقته مع نفسه، ومع أسرته ومجتمعه، ومع ذاكرته التي تجدّد عهد الودّ مع أحبةٍ بعدت بهم المسافات أو رحلوا عن الدنيا، ليتجدّد العهد والود بلقاء وصلة رحم وصداقة، أو بذكرى طيبة ودعاء.