على امتداد الحضارة البشرية، كانت مصادر الحصول على المعرفة محدودة وربما قنواتها محصورة على مجالسة أصحاب العلم أو قراءة الكتب، وعندما دخلت وسائل الإعلام الحديثة على المسيرة البشرية ساهمت بشكل أو بآخر في توسيع مصادر التلقي عبر المقالات المحكمة والرصينة في الصحافة المكتوبة، واللقاءات مع المتخصصين، بالإضافة للبرامج الوثائقية في الصحافة المسموعة والمرئية. ثم جاءت شبكة الإنترنت العلامة الفارقة في بداية هذا القرن لتشكل مصدراً ضخماً ومهماً للمعرفة رغم تخبطات البدايات واختلاط الكثير من الحقائق بالزيف والتدليس نظراً لطبيعة هذه المنصة المفتوحة التي تتيح لكل من هب ودب حرية التعبير، لكنها مرت بمراحل نضج أوصلتها لتشكل منعطفاً تاريخياً كمصدر معرفي هائل جمع كل وسائل المعرفة السابقة في منبع واحد؛ فتحولت الكتب فيها إلى نسخ رقمية وأتاحت أمام العلماء نشر أبحاثهم واختراقاتهم العلمية وحتى فرضياتهم القابلة للتطوير أمام المهتمين، وخلق مجتمعات افتراضية ووسائط أنتجت الكثير من المعرفة خصوصاً مع الثورة التي أحدثها في مجال البحث العلمي والتي حرقت المراحل وكسرت القيود الزمانية والمكانية، وصولاً للتطور الاتصالي الكبير من خلالها. كل هذه الحقائق تركت أثراً كبيراً على تسريع الاكتشافات ومسيرة التنمية البشرية؛ فما كان يتحقق من كشوفات قبل الإنترنت خلال أعوام وعقود أصبح يستغرق أشهراً وربما أياماً لكننا لا نلحظ هذا التغير السريع ولا نستطيع ملاحقته لأننا نعيش فيه ونتعايش معه. ومثلما شكلت شبكة الإنترنت ثورة وعلامة فارقة في التأريخ الإنساني، فنحن على أعتاب نقلة جديدة ربما لازالت في مراحلها البدائية التي تذكرنا بنهايات القرن الماضي؛ فالذكاء الاصطناعي يعد بثورة هائلة ستعيد الدهشة البشرية بشبكة الإنترنت وبطبيعة الحال فهو يعد امتداداً لها ويتقاطع معها بشكل كبير، بل هو أحد المنتجات التي سهلت الإنترنت ظهورها، أو على الأقل تسببت في تسريع ظهورها. ثورة الذكاء الاصطناعي التي أصبحت تتداول على نطاق شعبي واسع منذ أشهر قليلة فحسب لن تكون بداياتها متعثرة بذات القدر الذي كانت عليه بدايات الإنترنت فسمة هذا العصر هو التطور والنضج السريع الذي أصبح البشر يملكون كل ممكناته، وأعتقد أننا سنرى قفزات سريعة جداً في المستقبل القريب في هذا القطاع، لكن تلك القفزات ستكون محصورة على تطوره في الفضاء الرقمي فيما سيستغرق تطوره في نماذج محسوسة على شكل روبوتات يتم تداولها على نطاق شعبي وبأسعار في متناول متوسطي الدخل وقتاً أطول بكثير.