قد لا تسعف اللغة المرء دائمًا في إيجاد نفسه أو تقديمها، خاصّة وأن اللغة «نظام قائم بحدّ ذاته» وفقًا لديسوسيير، أي أنّ التأسيس لها والبحث عن تزاوج ما بين المبنى والمعنى ليس بالأمر اليسير وليس بالأمر الواعي دائمًا، لهذا قد يكون الرسم وعناصره (اللون، الخطّ، الشخص...) هو المسار البديل أو الأنسب، ما يحيلنا إلى تأويل محتمل وقائم لعنوان مجموعة نزار قبّاني «الرسم بالكلمات» حيث الإشارة إلى محاولة خلق علاقة حياتيّة تجمع الرسم والكلمة، وهذا هو الحال مع الفنانة التشكيليّة السعوديّة نوف السماري التي خرجت من عالم إدارة الأعمال حيث الأرقام والوقائع الحسابيّة والمعادلات نحو عالم أكثر حيويّة يمنحها القدرة على خلق القواعد الخاصّة والتعبير عن الأفكار اللاواعيّة بأدوات واعية. في لوحتها التي حملت عنوان «الناحية الأخرى من البحر» لجأت السماري إلى التأويل بقدر ما لجأت إلى التعبير ويتجلّى ذلك بوضوح من خلال إظهار جزء بسيط من البحر بلون أزرق «غامق» يتناسب مع لون السماء الليلي الذي يمنحنا دلالة على رغبة السماري في الغوص في المجهول لخلق دلالة خاصّة، فضلًا عن ذلك، فإنّ تواجد الشخصيّات بكثرة داخل هذا «البحر» يحيلنا إلى عدّة مسارات رمزيّة منها: الفوضى التي تغرق الذاكرة حيث أطياف المرء المتبدّلة والمتباينة والتي تتغيّر أو تمحى مع مرور الزمن وهنا أوّل نقطة تحيلنا إلى نزعة البحث والتنقيب التي تسعى إليها السماري، وقد تكون هذه الشخصيّات الملوّنة بألوان «فاتحة» أقرب إلى الوضوح والمباشرة تحمل في طيّاتها النظرة إلى الآخر، أو بالأحرى نظرة المبدع إلى الآخر والتي يكوّنها بوضوح وسرعة بديهة لكنّه يبقى مرتبكًا من إعلانها كاملة وهذا ما يفسّر طبيعة الوجوه غير واضحة الملامح والتي تنظر إمّا على يمينها أو يسارها أو تتخّذ نظرة مرتبكة لما هو أمامها. لم تجعل الفنانة التشكيليّة تداخل الشخصيّات وارتطامها مبهمًا، بل كان هذا التداخل يحمل دلالتين: الأولى متمثلّة بترابط المصائر والأحوال وأنّ الأفراد قد يتشاركون في نفس تحمل نفس المصائر والأقدر، أمّا الدلالة الثانية فتكمن في وضعيّة الأشخاص وتموضعهم داخل «البحر» فالشخصيّات المتوضعة في قاع البحر هي التي تشير إلى الأطياف الغارقة في ماضي الفنّانة كما يقدّم صيغة عن أولئك الغارقين في أفكارهم والعاجزين عن الخروج من دوّامتهم، وتحمل الشخصيّات المتوضعة قرب سطح البحر إحساسًا أكيدًا بعدم القدرة على النجاة والدليل يظهر في ملامحهم المندثرة والألوان التي استعانت بها السماري وهي ألوان «طازجة» كالزهر البرتقالي الممزوج بالأسود على سبيل المثال دون الحصر، أمّا الشخصيّات كعنصر مستقلّ بعيدًا من ارتباطها باللون والتموضع فهي سواء مثّلت أطياف أسيرة في ذاكرة الفنانة أو أطياف أشخاص آخرين يغرقون في مصائرهم، فإنّ الدلالة الأساس التي تعكس معنى اللوحة ككلّ هي أنّ السماري تبحث عن الوجود ومعناه الواسع اللامتناهي وقد اختارت البحر كعنصر طبيعي لامتناهي الحدود للتعبير عن رحلتها الفنيّة التأويليّة مستعينة باللون والشكل. تقدّم لوحة نوف السماري محاولة أخرى للبحث عن معنى الوجود وارتباطه بالإنسان وحاله وقلقه، ليكون البحر إناءً يحمل طريقًا سرمديًّا يقدّمه اللاوعي للمرء الذي لا يهدأ ليبدع من خلال اكتشاف أجوبة حول أسئلة لا تنتهي. ملامح عن الفنانة التشكيليّة: نوف السماري فنّانة تشكيليّة سعوديّة نشأت في مدينة الظهران في المنطقة الشرقيّة درست ادارة الأعمال في جامعة الملك فيصل- الدمام تعلمت الرسم بشكل ذاتي شاركت في العديد من المعارض الفنيّة منذ 2008 بين الخبر، الرياض، دبي، نيويورك والكويت وغيرها من الأماكن كانت واحدة من الفنانين السعوديين الذين شاركوا في معرض الفن السعودي بمناسبة استقبال الرئيس الأمريكي عام 2017 شاركت في مسار الفكر والفنون في قمّة العشرين في الرياض عام 2020 آخر مشاركاتها كانت في فبراير 2024 في صالة معرض «لكم» في الرياض. * كاتب وشاعر لبناني نوف السماري