يقول الباحث في الأدب الشعبي الألماني سيباسيتيان فرانك: المثل حصيلة تجارة مفلسة. وأقول: «المثل وثيقة شفاهية لإثبات ملكية الأرض، جغرافيًا، وتاريخيًا، ماديًا، ولا ماديًا»؛ لذا، يسعى باحثو كلِّ دولة ممن يعرفون أهمية ذلك، لجمع أمثالها الشعبية، وتوثيقها، وإثبات ملكيتها، كتراثٍ شعبي خاص بكلِّ منطقة، فمن أخلص لشيء منحه سره، فالمثل الشعبي يحمل بين طياته غواية لاستدراج الباحث إلى الولوج أعمق في تفاصيل الكلمات المعدودة التي تصيغ حكمة تلخص متاهات بشرية على مدى فترة من التاريخ، انتهت بهذا المعنى الكثيف. وفي المملكة العربية السعودية، أيضًا اهتمام ثقافي بالمثل الشعبي الشفاهي الذي يؤكد رسوخ الجماعة البشرية على هذه الأرض، وتوارثت حكاياتها وأمثالها ونكاتها وأساطيرها، حيث إن للجغرافيا دور مهم في إنتاج الإبداع عمومًا، والموروث الشعبي خصوصًا، لفهم الذات، وفهم الحضارة الموروثة في بضع كلمات شفاهية متناقلة جيلًا تلو آخر، مثلت حكمة الشعب الحاضر في المكان، بترديد الأبناء أقوال الأجداد، للتعبير عن توارث التجربة، إذ يتذكرها كبار السن في المواقف بهزلها وجديتها، وكل مثل يحمل دلالة ومعنى وفقًا للزمن والمكان الذي ظهر فيه. ورغم أنَّ الأمثال الشعبية تمتاز بعمومية التجربة، إلا أنَّها تحتفظ أيضًا بخصوصيتها في اللغة واللهجة وارتباطها بالبيئة، فالمعنى والغاية يتفقان في كلِّ أمثال العالم، وإن اختلفت كلماتها، أو شخصياتها أو حتى طرق إلقائها ولهجات شعوبها، إلا أن المثل يبقى ابن بيئته ولغته وحدثه. فيمكن أن نقول: «المثل شفرة مخصوصة، تنتقل بين الأجيال بلغة أهل الأرض المنتجة لهذه الحكمة الكثيفة، الدالة على الملكية الجغرافية للمكان»؛ فالمثل ينقل التعاملات المادية، وأحوال الطقس، وعادات الزواج، والطلاق، والعمل، والحب، والتجارة، وكل مناحي الحياة، بكل تجاربها المعيشة وفق فهم ووعي أصحابها، والتي أثبتت دقتها عبر مراحل التاريخ، لتكون «حكمة»، أو تجري مجرى الحكمة في سياقها. حتى أنَّ لغة الذكاء الاصطناعي، غيَّبت الكثير من أهمية البحث والجمع والتدوين لكلِّ صنوف الأدب الشعبي، فكان لزامًا الرصد والجمع والتدوين، وفق منهجية واضحة، ميسرة لكلِّ من أراد الحفاظ على وثيقة ملكية لبلاده، وثيقة مسافرة عبر التاريخ الشفهي الشعبي، ما يؤكد تلك الملكية بما لا يدع مجالًا للشك، لأن الناقلون، هم الكنوز البشرية أهل الأرض منذ بدء الخليقة، من قبل أن يعرف الإنسان عمومًا الأديان، أو التحزبات، أو أي الدعاوى التي فرَّقت. وتنحاز الثقافة الشفاهية الأصيلة بذكاء الفطرة للأغلبية من البشر، لتركيبها المنطقي، وسهولة انتقالها، وتوارثها، سواء تلقائيًا، أو بصيرورة مجتمعية، وفق مقومات تساعد على تشجيع انتقالها جيلًا عن جيل، حتى أنَّه لا يمكن معرفة القائل الأول للمثل الشعبي، أو غيره من أنواع الأدب الشعبي التي تتعدد منه الأساطير والحكاية الشعبية، والحكاية الخرافية، والملاحم، والأمثال والألغاز، كلها تشترك في الانتقال الشفاهي، لأن الأدب الشعبي عمومًا، انحاز للفكرة أكثر من الفرد، لأنَّ الفرد متغير، والفكرة متطورة، لكنها أصلها ثابت. ويشير التراث اللامادي عمومًا بوضوح إلى أنَّ الخبر المنقول، هضمته المعدة الشعبية، وأفرزت الكلمات القليلة المكثفة التي لخصت ما وراء الخبر من حكمة، وقد لعب المرأة دورًا مهمًا في رواية المثل الشعبي، لما يتميز به من خصائص، تمثلت في المثل نفسه، من سهولة التعبير وكثافته، أو من خلال الوقت الطويل الذي تمضيه المرأة، في مرحلة البداوة، فما كان من وسيلة للترفيه إلا رواية السير أو استلهام الأمثال، أو غير ذلك من فنون تشابكت مع طبيعة الحياة منذ فجر التاريخ. ويمتاز المثل الشعبي أيضًا بالتنوع، والتشابه؛ بل والتقارب بين دول الجوار، حيث إنَّ المثل الواحد يسافر من بلد إلى آخر، ويتأثر بتأثر روايته، لكن مضامينه واحدة، تشير بوضوح إلى أصله، رغم التشابه إلى حد التطابق مع اختلاف المفردات المنطوقة باللهجة المحلية المحكية، وهذا الانتقال، يشير إلى حيويته في رحلته من منبعه، مرورًا بمرافئ كثيرة، حتى وصوله إلينا، ما يؤكد دقته، وصحته، وأهميته، وانتشاره، وإعادة إنتاجه، مرة ومرة ومرات عديدة. الأمثال الشعبية وقيمتها الأدبية للأمثال الشعبية قيمة أدبية كبيرة، ولقد أدرك العرب الأوائل قيمة هذا الكنز اللغوي البليغ فجمعوها في كتب، لتتأكد وجهة نظرنا بأن المثل الشعبي وثيقة شفاهية لإثبات ملكية الأرض. *كاتب وصحافي مصري