لم يكد الأميركيون يستقبلون العام الجديد بابتهاج شديد، حتى صدمهم إعلان صادر عن وزارة الخزانة، يشير إلى تجاوز الديون الحكومية عتبة ال34 تريليون دولار للمرة الأولى في التاريخ، وهو رقم مخيف ينذر بتحديات سياسية واقتصادية، وسيكون عقبة أمام تحسين الميزانية العمومية خلال الأعوام المقبلة، وفي ظل حالة الاستقطاب الراهنة، فإنه من الطبيعي، أن يتحول تقرير الوضع المالي للولايات المتحدة إلى مصدر للتوترات في بلد تسوده انقسامات سياسية حادة، قبيل انتخابات رئاسية شرسة، ولا شك أن حالة التشرذم السياسي قد تؤدي بالنهاية إلى إغلاق الحكومة الفيدرالية، إلا أنه من حسن حظ الأميركيين أن زعماء الكونجرس توصلوا، بعد إعلان الديون الصادر عن وزارة الخزانة، إلى اتفاق بشأن إطار عمل لتجنب الإغلاق، والحفاظ على تمويل الحكومة الفيدرالية حتى نهاية السنة المالية الحالية. يحدد اتفاق الإنقاذ، الذي تم للتو، مستويات الإنفاق القصوى عند 886 مليار دولار للإنفاق الدفاعي، و773 مليار دولار للإنفاق غير الدفاعي، إلا أنه يتعين على الجهات المختصة وضع اللمسات الأخيرة على الصفقة كي يتم تمريرها، حيث يحتاج الكونغرس إلى إقرار مشاريع القوانين قبل نفاد أموال بعض البرامج الرئيسية بحلول 19 يناير الجاري، فيما ينتهي تمويل بقية البرامج الحكومية في 2 فبراير، ومن المرجح أن يثير الاتفاق غضب المحافظين اليمينيين في مجلس النواب الذين يصرون على إجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق وقيود على الحدود، مقابل تصويتهم على مشروع قانون الإنفاق، وبعضهم يصفه بأنه "فظيع"، وتعني معارضة الجمهوريين اليمينيين أن التشريع المرتقب سيحتاج إلى دعم كبير من الديمقراطيين في مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون. كيف ارتفعت الديون لهذا الحد؟ الواقع، أن القفزة الراهنة في الديون تضرب بالتوقعات الأميركية السابقة لمنحنى الديون عرض الحائط، فقد كانت توقعات مكتب الميزانية التابع للكونجرس، خلال شهر يناير 2020، تشير إلى أن إجمالي الدين الحكومي سيتجاوز 34 تريليون دولار عندما يحين عام 2029، لكنه أتى مبكراً بنحو خمس سنوات، والسبب، هو تسارع نمو الدين العام أكثر من المتوقع بسبب الجائحة التي أدت إلى إغلاق جزء كبير من النشاطات الاقتصادية، مما أجبر إدارة ترامب على الاقتراض بكثافة بهدف حماية الأسر والشركات والوظائف، ثم فاقمت حكومة بايدن الديون، فزادت الاقتراض من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي ودعم التعافي، لكن الانتعاش أتى مصحوباً بتضخم قياسي تجاوز 8 %، ووصف بأنه الأسوأ خلال أربعة عقود، الأمر الذي دفع بالاحتياطي الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة، مما زاد من تكلفة خدمة الديون الحكومية. في بدايات تشكل جبل الديون، وتحديداً في عام 2020، كانت الحكومة الأميركية تنفق شيكات التحفيز بسخاء على الأسر والشركات، كما لو كان لديها موارد غير محدودة، لكن في الواقع، لم يجد الأميركيون وجبات غداء مجانية، فقد كان كل شيء مدفوع الأجر، ونظراً إلى أن إجمالي الديون يشمل بعض الأموال التي تدين بها الحكومة نفسها، فإن صناع السياسات يضعون في حساباتهم فقط، الديون المملوكة للأفراد والشركات والمستثمرين عند تقييم الموارد المالية للدولة، ويستبعدون ديون الحكومة المملوكة للجهات الحكومية الأخرى، وعلى هذا، فإن الدين المملوك للجمهور في رقبة الحكومة يقارب 26.9 تريليون دولار، وهذا الرقم يعادل تقريباً حجم الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، والأدهى، أن مكتب الميزانية التابع للكونجرس يقدر في توقعاته خلال الثلاثين عاماً القادمة، أن نسبة الديون الحكومية ستصل إلى 181 % من إجمالي النشاط الاقتصادي بحلول عام 2053. أي تأثير اقتصادي للديون؟ في الوقت الحالي، لا يشكل الدين العام عبئاً كبيراً على الاقتصاد الأميركي، بسبب رغبة المستثمرين في إقراض الحكومة، مما يسمح بمواصلة الإنفاق على البرامج الأساسية دون زيادة الضرائب، إلا أن المسار الصعودي للديون خلال العقود المقبلة قد يعرض الأمن القومي الأميركي والبرامج الرئيسية للخطر، بما في ذلك الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية، والتي تعد المحرك الأبرز للإنفاق الحكومي المتوقع على مدى العقود القليلة المقبلة، وقد يشكل الخلل الحكومي، مثل المواجهة السنوية المعتادة بين الحزبين بشأن سقف الديون، خطراً مالياً إذا شعر المستثمرون بالقلق إزاء استعداد الكونجرس للسداد، ولهذا، يقوم المشترون الأجانب للديون الأمريكية، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول الأوروبية، بتخفيض ممتلكاتهم من سندات الخزانة، والتي تبلغ قيمتها الإجمالية 26 تريليون دولار، وإذا كانت الحيازات الأجنبية من الديون الأمريكية بلغت ذروتها عند 49 % في عام 2011، فإنها هبطت عند 30 % بنهاية 2023. بالنظر إلى المستقبل، فإن ارتفاع الديون سيستمر بشكل كبير، خاصة وأن وزارة الخزانة تتطلع إلى اقتراض تريليون دولار إضافية بنهاية مارس، ولا شك أن مراكمة ديون بتريليونات الدولارات، سنة بعد أخرى، يشكل إشارة تحذير حمراء لصانع السياسات الاقتصادية في الولاياتالمتحدة، لأنه يضر بالأساس بالناخب الأميركي، إذ يبلغ نصيب المواطن الأميركي من ديون بلاده نحو 100 ألف دولار، وبالرغم من أن هذه الديون الفلكية لا تهدد النمو الاقتصادي في الوقت الراهن، إلا أنها ستمثل أزمة على المدى الطويل، وستنفجر قطعاً إذا استمرت الديون الفيدرالية في القفز إلى مستويات مجهولة، وقد تفرض ضغوطاً تصاعدية على التضخم، وتبقي أسعار الفائدة مرتفعة، مما سيزيد من تكلفة خدمة الدين الأميركي. ومع تطور تحدي الديون بمرور الزمن، قد تضيق الاختيارات وتصبح أكثر خطورة مع تجاوز تكاليف الضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية، عائدات الضرائب، وبالرغم من أن الاستحقاقات المالية، وأهمها الضمان الاجتماعي، تمثل أكبر شريحة من الميزانية الفيدرالية، إلا أن حصة الإنفاق الدفاعي ليست ضئيلة بأي حال من الأحوال، والحقيقة، أنه لا أحد من الخبراء والمحللين يستطيع أن يخمن متى يمكن أن يتحول وضع الديون إلى مستويات خطرة، لكن، المؤكد هو أنه إذا سقط جبل الديون على رأس صناع السياسات، فسيكون لهذا الأمر عواقب وخيمة على الاقتصاد الأميركي، والاقتصادات المنكشفة عليه بشكل كبير، وربما يعني ذلك ارتفاعاً حاداً في أسعار الفائدة، وركوداً يهدد بمزيد من البطالة، وإطلاق نوبة أخرى من التضخم، أو وجود تشوهات غريبة في أسعار وسلوك المستهلكين. إذا كان الديمقراطيون والجمهوريون متفقون على ضرورة تقليص الديون، إلا أنهم مختلفون حول الطريقة المناسبة، وعلى سبيل المثال، فإن إدارة البيت الأبيض، الديمقراطية، تضغط من أجل زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات لتقليل عجز الميزانية، بالإضافة إلى تمويل أجندتها المحلية، كما قام الرئيس بايدن، المهدد بفقدان وظيفته في عام 2024، بزيادة ميزانية مصلحة الضرائب، على أمل أن تتمكن من تحصيل الضرائب غير المدفوعة، مما سيخفض ديوناً بمئات المليارات خلال السنوات العشر المقبلة، في المقابل، يطالب الجمهوريون بإجراء تخفيضات كبيرة في البرامج الحكومية غير الدفاعية، وإلغاء الإعفاءات الضريبية على الطاقة النظيفة، ويريد الجمهوريون تقليص تمويل مصلحة الضرائب، وخفض الضرائب بشكل أكبر، وهذا الأمر قد يؤدي إلى تفاقم الديون، والواقع أن الجدل المثار بين كلا الفريقين، الديمقراطي والجمهوري، يمثل نموذج أولي لبعض القضايا الاقتصادية التي ستعرض بكثافة على جمهور الناخبين الأميركيين قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية المقررة نهاية هذا العام.