تمثل الأحياء السكنية نواة المدن الكبيرة ومع النمو والتطور العمراني والتزايد السكاني باتت الحدائق عن أهمية أنسنة المدينة حديث الكثير والاهتمام بتعزيز صحة الإنسان النفسية والجسمانية محور نقاش للكثير من المتخصصين والمهتمين بالجوانب الاجتماعية، حيث تعد الحدائق والملاعب والساحات الرياضية نقطة التقاء وتعارف وتجانس لسكان الحي، وهذا ما يثبته المسجد وممرات المشاة حيث تلتقي الوجوه بشكل دائم مما يعزز من التآلف والاريتاح، وهذه طبيعة النفس البشرية. متخصصون في أنسنة المدن والتطوير السكاني أشادوا بفكرة وتحقيق جريدة "الرياض" حول الدعوة لإزالة أسوار ملاعب المدارس داخل الأحياء للاستفادة من الملاعب الرياضية وتحقيق الاستفادة منها طوال اليوم ونهاية الأسبوع والإجازات لسكان الحي وتعزيز دور الإدارة المحلية سواء في المدن الكبيرة أو الصغيرة في تعزيز الترابط بين الجهات العامة والأهلية. وهنا يشير م. عبدالعزيز بن خالد الرشيد ماجستير إدارة التشييد والمتخصص في تقنيات البناء والتطوير العمراني إلى أنه لماذا وجود أسوار في الحدائق؟ فأنا أرغب في دخول الحديقة والخروج بشكل طبيعي وهذا بحد ذاته أحد أوجه الأنسنة، بمعنى لا يوجد أسوار، وما هو موجود ممرات مشاة وألعاب أطفال وكراسي وجلسات، بل دعني أشعر أن الحي بكامله حديقة، ومن هنا ننطلق إلى أسوار ملاعب المدارس وفكرة إزالتها، وعليها لابد من التأكيد أنه إذا كان هناك مكان مخصص للملاعب فقط ومطل على شوارع الحي وليس إزالة أسوار المدرسة بالكامل. مواقع غير مستفاد منها: وهذا يقودنا إلى طرح تساؤل "لماذا لدينا في الحي مدرسة تضم أكثر من ملعب ولكن لا نستطيع أن نستفيد منها طوال اليوم ونهاية الأسبوع ؟ والإجابة هي لابد من الاستفادة من تلك الأماكن، ولذا يجب دمج المدرسة مع نسق الحي، لافتا أن الملاعب الرياضية في الغالب لا يمكن الخوف عليها، فهي أرضيات لا يخشى عليها من التلف، وهنا لنتخيل أن الحي الواحد يوجد فيه عدة مدارس فكم ملعب سيكون متاح لقاطني الحي .. لذا ليس من المعقول أن الأطفال يبحثون عن ملاعب بعيدة عن منازلهم ليمارسوا فيها هواياتهم وقضاء أوقات فراغهم وخاصة نهاية الأسبوع. دور البلديات في إدارة مرافق المدينة: وعن ما يدير ذلك التوجه على أرض الواقع، أبان م. الرشيد أن المسؤول الأول والمعني بذلك الأمر هذ الأمانات والبلديات في إدارة مرافق المدينة العامة، وهذا الموضوع علي سبيل المثال يكون من خلال التنسيق مع الجهات ذات العلاقة مثل التعليم، وهنا أؤكد أن ولاة الأمر يحملون اهتمامات كبيرة لفئات الأطفال والشباب بل وكبار السن والمتقاعدين لإيجاد مواقع قريبة منهم يمارسون فيها هواياتهم وتعزيز الصحة النفسية والجسمية. وعن تنظيم مثل هذا التوجه، أشار م. الرشيد إلى وجود فئة من المتقاعدين وراغبي التطوع في ظل الاهتمام الكبير بأعمال التطوع واحتساب ساعات سواء للطالب أو الموظف وهذا الأمر يتم من خلال التنسيق بين البلديات والتعليم والصحة وغيرهم من الجهات. غياب أمكنة التلاقي في المدينة الحديثة: وفي ذات التوجه لفكرة الاستفادة من ملاعب المدارس وفتحها لسكان الحي، أوضح ل"الرياض" م. عبدالرحمن بن أحمد الصايل باحث الدكتوراه في تنمية المدن في هولندا أنه مع موجة التحضّر الهائلة ونمو علم التخطيط الحضري، فقدت الأحياء في كثير من مدن العالم أماكن الالتقاء التقليدية. فعلى سبيل المثال، أزيلت المقاعد التي كانت موجودة في الحارات وخارج المنازل، وأصبحت الديوانيات الأسبوعية أقل شعبية مما كانت عليه في الماضي، وتم تقييد الوصول إلى الحدائق والأماكن العامة، فبدلاً من كونها موجودة بشكل عفوي وسط مجموعة من المنازل تحوّلت إلى أماكن مخصصة ومحاطة بأسوار فاصلة. الإنسان والبيئة العمرانية واستثمار الممكن: ويكمل م. الصايل حديثه مشيراً إلى أهمية استغلال ملاعب المدارس المفتوحة وإلى كيفية استثمار الممكن في الإنسان والبيئة العمرانية ليشير إلى أن الإنسان كائن مؤثر ومتأثر، والبيئة من أهم القضايا التي تتخذ شكلاً مزدوجاً مع الإنسان تأثراً وتأثيراً، مؤكداً أن هذا يقود إلى ضرورة تجاوز ضعف العلاقة بين الإنسان ومحيطه، وهو ما لو تم الالتفات إليه بشكل أفضل أحسنّا أنسنة المكان وتفعيله بالشكل الأمثل، وما دمنا متصلين بالبيئة على هذا النحو، فحين نرى الناشئة وهم يدرجون في بيئاتنا المحلية، فإن استثمار كافة مكونات البيئة ممكنة الاستثمار، والتي لتسهم في العملية التربوية والتكوينية لشخصية المتربي سيكون له أثره الإيجابي على شخصياتهم التكامل صانع للاكتمال: ويلفت م. الصايل النظر إلى أن تكامل القطاع البلدي والعمراني مع القطاع التعليمي في شتى المسائل البيئية الأكثر اتصالاً بالتربية ستصنع الفرق الذي يحقق الصورة المنشودة، مضيفاً أن المدينة في الواقع ينبغي لها أن تصنع أمكنة تلاقي قادرة على صناعة القيمة والتغيير الإيجابي في السلوك لا أن توفّر مرافق خدمية مجرّدة ومحاطة بأسوار تعزلها عن بعضها البعض، مستشهداً بحديثه إلى صور التكامل تلك، ومنها إتاحة الملاعب المدرسية والتي هي غالباً داخل أسوار المدارس بإتاحتها لأبناء الحي المحيط، لتسهم في حلول بيئات نشطة تربوياً واجتماعياً لناشئة الحي ولو كان الوصول إلى ذلك بإزالة الأسوار ليذهب الحاجز الذهني أولاً من المجتمع بينه وبين الاستفادة من المكونات المدرسية المتوفرة خارج مبنى المدرسة حتى يشعر أهل الحي أن ملاعب المدرسة وبيئتها جزء من حيهم المسهم في ترقية شخصيات أبنائهم. مبيناً أن إتاحة الحدائق بإزالة أسوارها وربطها بالحي والمسجد، سيشعر الجميع أن الحديقة جزء من مكونات الحي التي تعتبر متنفساً طبيعياً يسهم في إنعاش الحي وفتح آفاق التواصل الاجتماعي في بيئة متكاملة عمرانياً تحديات ومعوقات: ولم يستبعد كل من م. الرشيد و م. الصايل صعوبة تصور الأمر وخاصة في بداياته، لافتين النظر إلى أنه قد تنشأ تحديات لهذه الفكرة في ظل اختلاف مرجعية مرافق القطاع البلدي عن مرجعية القطاع التعليمي، وتبرز هنا قضية الخوف من ضياع مسؤولية صيانة المرافق والحفاظ على استدامتها في ظل الاستخدام من جهتين مختلفتين وفي ظل غياب الإدارة المحلية التي تستطيع ضبط حوكمة هذه العملية. وهناك مخاوف بشأن مسؤولية ما يحصل للمرفق التعليمي لو أزلنا الأسوار. وهنا ينوه الرشيد والصايل بأن هذا الاقتراح يأتي في ظل رؤية المملكة الطموحة 2030 والتي قامت على التكاملية بين القطاعات وتكوين مساحات ابتكار من خلال إزالة الحواجز بين القطاعات والوزارات وتحويلها الى برامج كبرنامج جودة الحياة على سبيل المثال والذي يشترك فيه أكثر من وزارة وجهة. في ظل هذه الفترة الذهبية التي تعيشها المملكة في تحقيق قفزة حضرية هائلة، نستطيع بلا شك تجاوز هذه التحديات بحلول مبتكرة كتفعيل مراكز التنمية الاجتماعية أو قادة الأحياء أو نظام حجوزات إلكتروني كما هو معمول به في مدينة هلسنكي الفنلندية، بحيث تكون المسؤولية تقع على عاتق المستخدم. تعظيم الأثر التنموي: ولتعظيم الأثر التنموي لتلك الأفكار يشير كل من المهندسين الرشيد والصايل إلى أن التجربة المحلية تمتلك رصيداً مُلهماً من التجارب الناجحة في تعظيم الأثر التنموي للمرافق. وهنا يتحدث م. الصايل عن تجربة رائد أنسنة المدن سمو الأمير د. عبدالعزيز بن عيّاف -أمين الرياض الأسبق- في زيادة جاذبية الحدائق للسكان وربطهم بها من خلال إزالة أسوارها وجعلها ضمن تنقلاتهم اليومية للمرافق الأخرى، على الرغم من أن التجربة واجهت ممانعة في حينه من البعض بقولهم "هذا سيجعلها مباحة"، وإذا لم تكن مباحة فما هو المقصود منها إذن! ونشهد اليوم تبني الحدائق والأمانات وحتى الوزارات لهذا النهج بإزالة الأسوار والاتصال مع الناس. م. عبدالعزيز الرشيد م. عبدالعزيز الرشيد