مع تطور العالم المعاصر، وازدهاره تقنيًا، تتنامى فرصٌ كثيرة للاندماج في مستجداته، وبات بالإمكان أن يكون لكل شخصٍ شخصياتٌ افتراضية أيضًا، بل ربما شخصياتٌ بلا عدد، ولم يعد الواقع هو الخيار الوحيد لمن يريد، إذ بإمكان الحقيقة أن تصبح حقائقَ أخرى بطريقةٍ مشابهة، وبطريقةٍ مغرية، ومن طرافة الأمر؛ إمكانية الحوار المُفْتعل بين الشخصية الواقعية، وذاتها الأخرى الافتراضية فتتكاثر الشخصيات للذات الواحدة، وقد تستخدم في الوقت نفسه تلك المعرّفات المناقضة، والسّمات المباينة، والأسلوب المغاير، لقد بات التقنّع خلف سيميائية الرموز، وتصاميمها المجهولة منفذًا واسعًا يمْرُقُ منه الملايين، لممارسة التفاعل الافتراضي أمامنا، لنكون في حالة التلقي أمام شخصية نواجهها رقمياً دون أن نعرفها، ونحاورها دون أن ندرك أبعادها الحقيقية، وهنا تصبح الشخصية الحقيقة على محكٍّ تقنيٍّ حادٍّ ومفصليّ، ذلك حين تقع هذه الشخصية رهينة الازدواجية في كل شيء، وأهم مظاهر ذلك يبدو في ازدواجية الموقف أمام كلمة الحق مثلاً، أو في المبدأ؛ لأنّ الإنسانَ في جوهره هو: (الموقف). لكنّ (أقنعة) المُعرِّفات الرقميّة بإمكانها اليوم أن تتيح لإنسانِ هذا العصر أن يقول ما يشاء، في أي موضوع يخطر على البال، وأن يتبنّى ما يريد من موقف، فله الخيار في أن يتمسّك بالحق، أو أن يبيعه بثمنٍ بخس، فكلُّها فرصٌ متاحة إذًا، والنوايا -كما يقال - مطايا، لأن المسؤولية القانونية فضلاً عن مسؤولية الضمير الحي يمكن أن تتوارى خلف هذه الحُجُب الإلكترونية، إنه عالم هلاميّ، لا يمكن مع الاستتار التقنيّ القبض على حقيقته بشكلٍ مباشر، ومن هنا يستمد خطورته، وقدرته على التّسلّلِ والاختراق من ناحية، وعلى الإفلات من المحاسبية الأخلاقية، والقانونية من ناحية أخرى، ومخارج هذه الشبكة العنكبوتية وتقاطعاتها أكثر من أن تُعدّ أو تحصى. ومن جانبٍ آخر أيضًا نجد ازدواجيةً أخرى لا تقلّ خطورة، وهي تلك السمات والمواصفات المثالية، التنظيرية المتسامية افتراضياً في عوالم المُثُل العليا، التي تظهر في مختلف تطبيقات هذا العالم الرقميّ، بينما هي في واقعها الحقيقي على النقيض تماماً، فالذين ينادون بالعدالة افتراضياً، قد يمارسون الظلم في واقع حياتهم، وأولئك الراحمون في السوشل ميديا ربما هم في الواقع غلاظٌ شدادٌ مع مَنْ حولهم، ومع أقرب الناس لهم، وقد يكون المتسامحون تقنيًا جبابرةً عند مواقف الامتحان في أرض الواقع، وقد يدبج بعضهم نصائح الوعظ والإرشاد وهو أولى الناس بها. وهذا العالم الافتراضي الموازي لعالمنا الحقيقي، بقدر إيجابياته الحضارية والتقدّميّة، إلا أنّ في دهاليزه ظلامٌ حالك، فهو متاهةٌ لا قرار لها، إنه يعجُّ بمسالك الغواية، ويُمَكّن من الابتزاز، ويغري بجرائم الافتراض التي لا تقلّ خطورةً عن جرائم الواقع، وفي خضمّ هذه الموجة الرقميّة العارمة، لا يمكننا إنكارُ الإيجابيات، ودورها الخدميّ الفعّال، ليبقى الخيارُ بيد المستخدم، وماذا يريد أن يكون في هذا العالم؟ هل يكون هو بحقيقته، وطبيعةِ معدنه أم يكون شخصيةً مزدوجة؟ هل تضبطه الأنظمة وتقيّده المبادئ، أم يعيش في عالم افتراضي، يسمح بالتخفي ويمنح وهم الحريّة؟