لطالما تساءلنا لماذا الشعر يتجذر بنا؟ ولماذا يصنّف دائمًا كأقرب الفنون للإنسان؟ أتى الفيلسوف الألماني هيجل ليؤكد لنا ذلك عندما قال "هو الفن المعبّر من باطن الروح"، هذا ما يدعوني إلى سؤالٍ آخر كيف استطاع الشعر أن يصل إلى بواطن أرواحنا من بين كل الفنون الأخرى؟ في تفسير ذلك أطال الكثير من الفلاسفة في إيجاد الإجابات لهذه المتانة التي تغمر علاقة الإنسان بالشعر. تتعدد الأسباب وتبقى اللغة سبب لامع في إضفاء هذه القيمة، إن لكل فن أدواته التي يستعين بها للتعبير عن الحياة. وكانت اللغة هي أداة الشاعر التي استعان بها، إنها ليست أداة فحسب، بل هي تشكّل جزءاً من هوية الإنسان، لقد اختلق الإنسان اللغة في اللحظة التي أدرك فيها عن احتياجه في التواصل مع الآخرين، والتعبير عن آلامه ورغباته من خلالها. ولكل أمة لغتها الخاصة التي تتلاءم مع طبيعة روحها، وتعطي للأشياء الاسم الذي يعبر عنها. يشبّه هيدجر اللغة "بأنها بيت الوجود، وفي بيتها يقيم الإنسان"، إن اللغة تصوغ للإنسان الوجود، التي من خلالها يجد فيها كل ما يهتز في وجدانه من شعور، مفردة تختص به، ولكل ما يوجد في كونه. إن الأشياء توجد إذا وجدت اللغة، والشاعر يستعين بها كأداة، فيجده تسهل له وصف الوجوديات كما يجدها الإنسان. إنها الأداة التي ترافق الإنسان في جولاته داخل الحياة، حينما يفكر، ويعمل، وحين ينوي شرح آلامه، ومن خلالها تتحقق عملية الإفهام بينه وبين الآخرين، ولذلك تعتبر اللغة أكثر عنصرًا من عناصر الهوية قربًا من الإنسان، وتتشكل لتكون مشابهة له تمامًا، ولذلك تتميز الأعمال الفنية التي تستخدم اللغة كأداةٍ للتعبير، بمنزلة خاصة لدى الإنسان. إن الإبداع الفني في الفن اللغوي يكمن في الكلمات ومدى أثر الكلمة في لغةٍ ما، بما تحمله من معانٍ وتاريخٍ لمن ينطق بها، إضافةً لوجود المجاز والتشبيه، ولهذا نجد الصعوبة في ترجمة الأعمال الأدبية، مما يدعو على أن يكون المترجم أديبًا حتى يتمكن في اختيار المفردة التي تحمل مقدار المعاني للمفردة المراد ترجمتها، كما يتميز الشعر بميزةٍ إضافية في نظر الشاعر محمود درويش يقول "هذا السيّد المطلق للكلمات في إعادة إنتاج جديد لدلالاتها"، ونخص من الأعمال الأدبية فن الشعر، كأقدر فنون اللغة على نقل المضمون الفكري والانفعالي، كما أن الشعر يعتبر من أكثر الفنون التي يسودها الخيال، يعرّفه الفيلسوف شوبنهاور "إنه الفن الذي يستثير الخيال بواسطة الكلمات"، فعلاقة الفن بالخيال أمرُ ضروري، لتصوير المعنى، وإظهار الجماليات الموجودة في الطبيعة التي لا يميّزها سوى الإنسان، فالخيال يرينا الأشياء كما نشعر بها لا كما صنعتها الطبيعة، يصوّر محمود درويش غياب أبيه، يظهر لنا قوة الكلمة في استثارتها للخيال من أجل تصوير المعنى: هذا غيابكَ كلّهُ شجرُ يطلُّ عليكَ منكَ، ومن دُخاني إن استخدام اللغة كأداةٍ فنية، مكّنت الشاعر من إزالة المسافة التي بينه وبين الإنسان، لنجد في الشعر المعنى كما نفهمه وكما نلفظه في سائر أيامنا حينما تحسُّ به روحنا، والشعر أخذ يربط الإنسان بالخيال ليجدُ المعاني بالصورة التي تقع عليه روحيًا.