أخذني الطقس الرائع اليوم وأنا أنوي كتابة مقال الأسبوع إلى زمن مضى في السبعينات حين كان معظم المنازل لا يخلو تصميمها من (البلكونة) وهي كلمة إيطالية الأصل وتعني الشرفة الكبيرة، وهي كذلك بالفعل شرفة خارجية في الدور العلوي من المنزل تطل على فناء المنزل والشارع أمامه قد تكون مفتوحة بسور قصير أو ذات سور مرتفع ولكنه يبنى من الطوب الجبسي المخرم بزخارف هندسية مميزة تمكن من فيها من رؤية الخارج ولا تمكن من هم بالخارج إلا من رؤية ظله خلف تلك الزخارف. كانت البلكونات تمنح شكلاً جمالياً للمنازل من الخارج وتستخدم حين تطيب الأجواء المناخية من قبل العائلة كاستخدامهم لغرف المعيشة فيتناولون فيها الإفطار أو قهوة المساء. ومثلها أيضاً لم تخل المنازل من (البرندة) وهي مفردة لاتينية Veranda ولها الفكرة نفسها ولكنها تختلف عنها بأنها تحتل مساحة كبيرة من الدور الأرضي في واجهة البيت وكانت البرندة هي المفضلة أكثر للاستخدام عند معظم الناس لأنها تحفظ لهم خصوصيتهم. كانت البرندة في مدخل البيت مرتفعة بثلاث عتبات على الأقل ولها سور قصير من الطوب الجبسي أو الحديد المزخرف ولا يزيد ارتفاع هذا السور على نصف متر فقط وكانت هي المكان المفضل للجلوس وخاصة في المساء. ما زالت ابنتي وهي من مواليد التسعينات تتذكر آخر وأول برندة عرفتها في منزل أحد أقاربنا وتناولت فيها الشاي وخبزة الزعتر وما زال المكان والرائحة والصحبة من الصغار والكبار تحتل حيزاً عاطفياً في ذاكرتها. وما زالت الصور الفوتوغرافية لحفلات ميلاد صغار العائلة الذين ولدوا في الثمانينات في آخر برندة من منزل العائلة تحتل زاوية جميلة في الذاكرة رغم أن البرندات في وقتهم تقلصت مساحاتها مع اتساع البيوت حتى اختفت بعد ذلك تماماً في معظم التصاميم. أما ذاكراتي ففي ألبومها الخاص لبرندات وبلكونات حي العدامة بالدمام كثير من الصور، حيث البراءة والنقاء وشيطنة المراهقة وجلسات العائلة الخاصة ووجوه الأحبة الذين رحلوا وتركوا لنا صور ابتساماتهم في برندات الذاكرة، وأذكر أن أول طبق سليق تذوقته كان في إحدى برندات حي الملز في الرياض عند أحد أقارب العائلة كأني أراه الآن أمامي. وفجأة اختفت البلكونات ففي البيوت القديمة أغلقت بالطوب وفي أخرى بشرائح الألمنيوم القبيحة ولم نعد نراها إلا في البنايات متعددة الأدوار ذات الشقق الصغيرة التي يسكنها في الغالب الأسر الوافدة والذين حصروا استخدامها في نشر الغسيل فقط. وغابت البرندات واحتلت مكانها في البيوت الحديثة الديوانيات المكيفة ليستفاد منها صيفاً وشتاء. ورغم غياب البلكونة والبرندة إلا أن الناس لم تكتف بهذا فصاروا يتنافسون في وضع سور حديدي فوق السور الرئيس في المنزل حتى لا يلمحهم من بالجوار فصارت البيوت تصمم من الخارج وكأنها صناديق مغلقة مربعة الشكل لا تختلف إلا بشكل نوافذها! مؤخراً بدأت أرى في الأحياء الجديدة بروز البلكونات الفسيحة التي تزيد من جمال التصميم الخارجي للمنزل ولكن لم يصادف أن رأيت من يجلس فيها ويستمتع بالأجواء الجميلة ابتداء من هذا الشهر، وهذا يجعلني أتساءل: ما الفرق بين الجلوس في بلكونة المنزل والجلوس في المقاهي والمطاعم التي تفترش طاولتهم أرصفة الشوارع وتجد إقبالاً كبيراً من الناس؟ هل الفرق في لبس العباءة للنساء؟ أعتقد أنه من الممكن استبدالها بأي لباس آخر مناسب للبيت فهذا الأمر لم يشكل عائقاً عند المحجبات في المدن العربية التي تحتل البلكونة أهمية كبرى في الشقق السكنية سواء في الأحياء الراقية أو الشعبية. البلكونة مساحة للتنفس ومطل على الحياة يغني في كثير من الأحيان عن الخروج من المنزل مع العائلة أو منفرداً مع كتاب ما وعزف جميل وفنجان قهوة.