أحاديث مطوّلة "تتحسّر" على نظام العمارة العربية، مثل الذي يميّز مدينتي حلب ودمشق, وتجسّده تلك البيوت الواسعة بأبوابها الواطئة الصغيرة, من خشب ومعدن, يختبئ خلفها فضاء مفتوح على السماء، وتتوسّطه بَحْرة دائرية, تحيط بها الأزهار. وحول هذا الوسط الأنيس، تتحلّق النسوة وتدور الأحاديث، في غياب رجال المنزل. تطوّرت الحياة وانتشرت الأبنية الاسمنتية، والشقق الضيّقة، مثل"علب الكبريت"، على قول المصابين بحنين إلى الماضي وبيوتاته. ولماّ ضاقت مساحات الغرف وتقزمت, اختفت الساحة الوسطية وبحرتها, وغدا المسكن مجموعة جدران تفصل بين غرف رمادية صغيرة. ومحل التواصل العمودي مع السعة والرحابة, حيث يأتي الضوء من قبة السماء لينتشر في أرجاء الساحة الداخلية, حل تواصل أفقي مع مصدر الإنارة التي تأتي من انعكاس الضوء على الجدران القريبة المقابلة، ليتسلل إلى الداخل المظلم، ليل نهار، عبر النوافذ والشرفات. وكأن هذا التحول أتى لينشئ علاقة مواجهة بين العتمة في الداخل والنور في الخارج. فالامتداد الشاهق للأبنية الحديثة، قطع المدى البعيد نحو الأعلى بأسطح إسمنتية، بعضها فوق بعض. واختلف المشهد اليومي فانتقل من زرقة وسطوع في الأعلى إلى واقع رمادي على أفق ضيّق. ونشطت"البلكونة"، كمكان لعقد الاجتماع بالدرجة الأولى, بينما ظلت الحارة تحتفظ ببعض من رونق التواصل والإنسجام. وتحضر الجارة إلى البلكونة للتواصل مع جارتها القاطنة قبالتها أو تحتها أو فوقها... وفي تلك الأحاديث التي تدور جهارة تنتفي الخصوصية، مهما حاول الطرفان استخدام الغمز واللمز، فهناك دائماً عين تلتقط"شفرة"الحركات وتفكّها. وتبقى الشرفة مساحة للتواصل مع العالم الخارجي، واجتماع أفراد الأسرة أطفالاً وشباباً ومسنّين، على عشاء أو فنجان قهوة أو شاي، في الصباح أو في سكينة الليل الدمشقي... ومحطاً لأنظار"المتلصصين"التي تجعل من الحارة وبلكوناتها،"مسارح"صغيرة يتفرّج فيها القاطنون بعضهم على بعض. ومع دخول العابرين إليها تتحول الحارة قاعة مسرح كبرى، مع مقاعدها ومقصوراتها. ويتناقل السكان آخر الأخبار ويتبادلون الأنظار والتحيات، بمعانيها المختلفة. وأصبحت مساحة البلكونة وإطلالتها تعززان مواصفات المنزل. وانتقلت إلى الشرفة أزهار الساحة القديمة ونباتاتها للزينة، ولتلعب دور"الستار"الذي يخفي أحداث"المسرح الصغير"عن أعين"المتفرّجين". غير أن ارتفاع البلكونات عن أرض الشارع، كما أسوار البيوت الدمشقية القديمة، لم تمنع سكان العمارة أو الحي من الاستمرار في علاقات الألفة والحميمية, والمشاركة في الأفراح والأتراح، ولو أن وتيرة المشاركة خفّت في شكل ملحوظ. وتتعدد الأسباب التي ساهمت في تغيير أنماط العلاقات والتواصل، كالتي عُرفت سابقاً بين العائلات والجيران. فالفرد غلبه الانكباب على تأمين مطلبات المعيشة. وانحصر تواصله مع المقربين فقط، وفي أوقات"يسرقها"من ضغط النهار. ثم أصبح القادم الجديد إلى العمارة ومجتمعها المصغّر، يغلق نوافذه بالستائر السميكة ويسد فتحة البلكونة بزجاج سميك يحجبه عن الخارج, مفضلاً إنشاء عالم ذاتي، ومزاولة"طقوس"عيشه بعيداً من أعين الآخرين. وإذا دفع الفضول أو الحنين إلى الألفة القديمة بأحدهم إلى مد جسر مع الآخرين، ربما ووجِه بالرفض. وإذا لاقى ترحيباً، تصبح الزيارات وكأنها تحصل سراً أو خلسة، فالتنقّلات بين الجارين تجرى عبر السلالم والمصاعد الداخلية، وقرع الباب والجرس لا يسمعه إلاّ سكان المنزل. وأقل ضوضاء في الممرات قد تدير آذاناً منصتة إلى مصدرها، وتجذب أعيناً فضولية إلى مناظير أو عدسات صغيرة مثبّتة في أبواب المداخل.