جُبلت الأرواحُ على الألفة والاجتماع، وطُبعت على الاستئناس بدفء مَنْ تطمئنُّ إليه، وترتاح له، يستوي في ذلك كلّ من له روحٌ وقلب، حتى لو كان من أشرس الحيوانات وأشدها فتكًا وضراوة، وتأْنفُ النفس عادةً من الفراق، وتتهرّب منه، وتتألم من وقعه ومرارته، فحين يحلّ بين الأحباب تلفُّ القلوبَ سحائبُ الحزن، والأسى، ويضرب الهمُّ أطنابه في كل ناحية، كأنما فقدت هذه الأرواحُ نبضها، وانطفأت شموعُها. الفراق هذا الليل البهيم، والضيف الذي لا يُنتظر، والغائب الذي لا يُرجى حلوله، بيد أنه لا بد آتٍ آت.. مهما طال غيابُه، فقطارُ قدومهِ سيصل حتمًا، طال الزمان، أو قصر، وقد وضع (جبريلُ) عليه السلام هذه (الحقيقة) في مسمع صفوة الخلق (محمدٍ) عليه صلوات الله؛ إذ قال له: «وأحبب من شئت فإنك مفارقه»، هي الحقيقة المرّة إذاً، وعلى كل نفس أن تتجرعها ذات لحظة، فراق الأحبّة كدرٌ يعكّر صفو الحياة، وهو على درجات في قسوته وغلوائه، فقد يكون فراقاً عابراً، كسحابة صيفٍ، وقد يكون فراقا يعقبه أملٌ ورجاء باجتماع الأحبة بعد فترة من الهمّ، كما كان يؤمّل (قيس بن الملوّح) حين أنشد: وقد يجمعُ اللهُ الشتيتين بعدما .. يظنّان كلّ الظن ألا تلاقيا وقد يكون فراقًا قاسيا لا حدّ لوجعه، له حزنٌ لا يواريه التراب، مما يعني أنّ لذعة الفراق على درجاتٍ من الألم هي الأخرى، والعزاء في ذلك كله هو درجة اليقين، والصبر، والتحمّل لدى أولئك الذين كان قدرهم فراق أحبتهم. على أنّ هناك من تخور قواه، وينهدّ بناء روحه أمام موجة الافتراق، رغم ما عهد في نفسه من الإقدام والفدائيّة، يقول (المتنبي): إني لأجْبُنُ عن فراق أحبتي .. وتُحِسُّ نفسي بالحمام فتشجعُ فهو على استعدادٍ لمواجهة الموت ولكنه يجبن عند الفراق، وهي مفارقةٌ نفسيّةٌ يفلسفُها المتنبي في هذا الصراع الروحي بينه وبين الفراق، وبينه وبين نفسه المقدامة، بينما يقول (الجواهري): وإنّي والشجاعة فيَّ طبعٌ .. جبانٌ في مواجهة الفراقِ فعلى الرغم من الشجاعة التي يرى أنّه طُبع عليها، وعاش مدّرِعَاً بها في مواجهة الخطوب، والمخاطر، إلا أنّه يضعف وينهزم أمام لحظة فراق تسوقها الأقدار نحوه، ويؤكد (معروف الرصافي) ذات الفكرة، حين يقول: وإني جبانٌ في فراق أحبتي .. وإن كنت في غير الفراق شجاعا هكذا يتنازل عن كبريائه، وتنهار قوّته، وتلين قناته حين يفارق من يحب، فأي قوّة يتمتّع بها هذا الفراق؟ فيكسر الجبابرة ويقصم العتاولة! وحتى (أبو فراس الحمداني) الشاعر الفارس العاشق، وقد كان (عصيَّ الدمع شيمته الصبر) ومع ذلك فليس بدعًا من هؤلاء البشر؛ إذ الفراق يفعل به الأفاعيل! يقول في ذلك: أُقاتلُ كلَّ جبارٍ عنيدٍ .. ويقتلني الفراقُ بلا قتالِ إنه يشعر بتلك القوّة الهائلة، ولكنه لا يراها بالسلاح المجرد، وإنما يذوق أثرها ونتيجتها، دون أن ترفع سلاحًا، أو توجّه ضربة. هو هذا الفراق، إن أخطأت سهامه مرّة، فلا بدّ أن يعاود الكرّة، وليس لكل نفسٍ إلا قبول الواقع، يتفق مع ذلك مقالة المتنبي مرّةً أخرى؛ حين يؤكد في موضعٍ آخر حقيقة الافتراق، مهما تعاشر الناس وطاب أُنْسُهُم، وراقَ عيشُهم؛ إذ يقول: نبكي على الدنيا وما مِنْ معْشرٍ .. جمعتهم الدنيا فلم يتفرّقوا وماذا بعد؟ لا شيء.. سوى الإيمان بقضاء الله وتقديره، فأحبب من شئت فإنك مفارقه.