مع مرور أكثر من أربعين يوماً من هجوم السابع من أكتوبر على إسرائيل ومع متابعة أصداء هذا الهجوم وما بعده حول العالم على المستويين الشعبي والرسمي، يتبين للمتابع أن ما يمكن أن نطلق عليها (الحرب الفلسطينية الإسرائيلية) قد أحدثت صدمات عالمية متفاوتة الشدة وأثارت عدة أزمات في منطقة الشرق الأوسط، وكان لها تبعات في أنحاء العالم إما مع أو ضد. ونظراً لحجم الهجوم الكبير فإن الأعين ستلتفت إلى القوى الكبرى في العالم لتبحث عن نشاط هذه القوى تجاه ما حصل وتجاه حل القضية الفلسطينية الإسرائيلية برمتها، وفي خضم هذه التساؤلات والمتابعات، من البديهي أن تخرج التساؤلات عن الرأي الصيني ودوره وموقفه تجاه ما يحدث بحكم المكانة الدولية التي وصلت إليها الصين خلال العقود القليلة الماضية، وسيلاحظ المتابع أن الصين أظهرت جانباً فريداً من نوعه في طريقة تعاملاتها بعيداً عن التهور والتحيز لأي طرف، فقبل كل أمر.. الصين لها علاقة وثيقة تتزايد يوماً بعد يوم مع دول الشرق الأوسط، وهذه العلاقة تدور حول التعاونات الاقتصادية والسياسية أكثر من الهيمنة العسكرية أو محاولات التوسع العسكري، وعليه فإن تطلعات الصين واستراتيجياتها في الشرق الأوسط هي الاقتصاد والتجارة والتنمية والاستقرار والتعاون المشترك، ولأن هذا نهجها منذ أمدٍ بعيد، فقد أثبتت الصين أنها لا تسعى إلى فرض الهيمنة، أو استغلال أزمات الشرق الأوسط لتعديل موازين القوى، أو أن تخوض لعبة محصلتها (صفر) على المستوى الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وفي الشرق الأوسط اليوم، وخلال الحرب الفلسطينية الإسرائيلية، أصرت الصين على التوضيح في كل بياناتها وتصاريحها ومواقفها أنها تركز على سياسة تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن هذه السياسة لا تتحقق إلا في عملية تطوير المنطقة وتحقيق الاستقرار فيها وإرساء الأمن والأمان في بلدانها. إن أكبر مكسب استراتيجي للصين في الشرق الأوسط هي (المصالحة)، لذلك نجد أن مواقف الصين تركز على التنمية السلمية في المنطقة، ولو أردنا تحديد شكل السياسة الصينية في الشرق الأوسط لوجدناها قائمة على الانفتاح والتعاون والمشاركة والمساواة والشمول، وتظهر الصين في كل محافلها في المنطقة دبلوماسية المساواة والتوازن والتضامن والتعاون. ولأن الشرق الأوسط يواجه تغيرات هائلة، فالأمر يعتمد على بلدان المنطقة فيما إذا كانت قادرة على اغتنام هذه الفرصة القادمة من الشرق الأقصى، وفي ظل الحرب الجديدة الدائرة حالياً، هل يمكن النظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور إقليمي شامل ومنظور استراتيجي إقليمي؟ لقد ساهمت الصين دائما بجهودها في الحفاظ على الاستقرار والتنمية في العالم العربي، بل وكان لها التأثير في المساعدة على حماية أمن وسيادة واستقرار بعض الدول العربية، والصين في دعواتها لتقوية العلاقات بينها وبين الدول العربية تسعى للعمل مع العالم العربي لطرد القوى العدوانية والاستعمارية، ومساعدته على تطوير اقتصاده والحفاظ على استقراره الاجتماعي بعد أن فشلت التدخلات الغربية في ذلك على مدى عقود من الزمن. في بضع سنواتٍ مضت، طورت الصين علاقاتها مع المملكة العربية السعودية خصوصاً ومع إيران، بل وكانت الوسيط الأقوى في رأب الصدع الكبير بين البلدين الكبيرين، وساعدت سورية على الاستقرار والتنمية بعد أن أنهكتها الحروب، ودعمت السيادة الفلسطينية والتنمية على أرضها بشكلٍ علني وواضح، بل إن استراتيجيتها "الحزام والطريق" تدعم مشاركة سورية والعراق وفلسطين، كون هذه الدول الثلاث الأكثر حاجةً إلى تطوير اقتصاداتها وحل المشكلات المعيشية والاجتماعية لشعوبها. ولأن المسألة الأمنية قبل كل شيء، يكون على الصين أن تقدم الضمانات الأمنية لسورية والعراق وفلسطين في الوقت المناسب، وهي لا تجد غضاضةً حسب سياساتها المعلنة في تقديم الدعم لمحاربة أية قوى انفصالية أو عدوانية، وأن خطواتها اللاحقة بعد التأكد من طرد كل من يعيث في أمن تلك الدول، هو مساعدة دول المنطقة على تحقيق الاستقلال والسلام الحقيقيين والاستقرار والتنمية. وكما نشاهد كل يوم، محاباة الولاياتالمتحدة لإسرائيل، خلال الحرب الفلسطينية الإسرائيلية اليوم، وتتهم الصين بلا سبب، وعملها على تفاقم الوضع الإقليمي، وتحيز الرأي العام الدولي، وتجنيبها الصين وشيطنة نياتها باستمرار، ثم فإن الشرق الأوسط في المستقبل سيظل غير قادر على تجنب الحروب والوقوع في دواماتها طويلة الأمد. وفي هذا الحال، لن يتمكن الشرق الأوسط من تحقيق تنمية حقيقية، ولا الهروب من الاستعمار والغزو، ولا حتى التحكم في مكانته ومصيره لفترةٍ طويلة. ولأهمية الشرق الأوسط لدى الصين، فهي تحرص على التعاون مع الدول المؤثرة فيها عالمياً مثل السعودية، إضافةً إلى تلك التي تحتاج إليها مثل سورية والعراق وفلسطين، أهمية الشرق الأوسط تكمن في أنه عقدة استراتيجية الصين في القارة الأوراسية ونقطة الارتكاز الاستراتيجية لمبادرة (الحزام والطريق)، والمنطقة برمتها مرتبطة بنجاح أو فشل استراتيجية الصين العالمية، واستراتيجية أوراسيا، واستراتيجية الحزام والطريق، وترتبط أيضاً بأمن الطاقة في الصين، واقتصاد الصين وتجارتها، والنفوذ السياسي للشرق الأوسط. ومن التعاونات المستقبلية القادمة التي تبديها الصين بين حينٍ وآخر، هو عملها على تعزيز التبادلات والمعدات العسكرية والتبادلات التكنولوجية مع دول الشرق الأوسط، والعمل على الضمان والمساعدة في الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط انطلاقاً من موقعها الدولي المؤثر، والتأكد من أن بعض دول المنطقة التي حدثت فيها الاضطرابات لديها القدرة على الدفاع عن النفس والحق في ممارسة ذلك. *باحث في مركز الرياض للدراسات السياسية والاستراتيجية