الرسائل ليست ورقاً بل روح تتحدث معك، فأنت حين تقرأ تتخيل كاتبها، وكيف جلس، وكيف أمسك القلم، وتستعين بعقلك في صنع نظرة خاصة، وابتسامة تندرج من هذه الجملة، ودمعة من سطرها الأخير. ومع كوننا في زمن توفرت فيه كل وسائل التواصل؛ إلا أنه ما زال هناك ما يُقال، لفرد ولمجتمع، وللحياة أجمع كاعتذار وتساؤل وأمل، كرغبة في إيصال صوت ومحاولة لعناق طويل. لذا خصصت "الرياض" مساحة للرسائل الأدبية عبر سلسلة بعنوان "علمتني الحياة "، نقرأ منهم تجاربهم ونتلهف لسماع قصصهم ونتساءل معهم ونتعلم من أحرفهم. عزيزي محسن سلامة روحك وقلبك. وردتني رسالتك عبر بريد جريدة "الرياض"، محمولة بيد سارة العَمري، وأنا على ما خبرتني متوارٍ عن الأنظار منذ مدة، أكتب في العزلة مثل عنكبوت ينسج بيته على مهل، أكتب لأني أخاف أن أنسى أو أُنسى. أكتب كي أحيي الموتى، وأكتب كيلا أموت، وأنت تفهم ذلك جيدًا منذ أخذت على عاتقك مسؤولية إحياء شقيقك، حسن مطلك، ولعلك تتذكر قولي: يموت المرءُ حيًّا لو حظي بمثلك شقيق. أنا في هذه الرسالة أطمئنك أني ما نسيت ما خشيت أنت أن ينسرب مع الأيام وخيانات الذاكرة. أَوتحسبني نسيت أحاديث الأمسيات؟ في الكويت أو الإمارات أو في مدريد؟ اطمئن فإن ذاكرتنا القاصرة عصية على نسيان ما أدونه في يومياتي يا مُحسن. في أي بقعةٍ جمعتنا، فأنا مثلك أخاف النسيان وأحتال عليه بالكتابة ما حييت. عرَّجت يا صاحبي في رسالتك على لقائنا الأخير في شوارع مدريد، في فترة كنت أهرب فيها من نفسي في الكتابة والسفر، وقد خشيتَ يا صاحبي أن تتسرَّب إلى النسيان أحاديثنا في تلك الليلة، لكني أطمئنك أن مريضًا بالتدوين مثلي لن يغفل عن حفظ لقائنا تلك الليلة كتابةً في مذكراته قبل أن تُحرق في يوم ما. كل موقفٍ مدوَّن هنا، كل حوارٍ وكل كلمة. كنت قد خرجت للتَّو من رحلة تعافٍ فرضها علي الروائي الصديق محمد حسن علوان صيف 2022 حينما انتزعني من فم أسد الاكتئاب، حينما رتَّب لي سفرًا بعد تجربة فقدٍ مريرة، ولعلوان رسالة أخرى ليس هذا أوانها. بعد فراغي من رحلتي الشفائية ال"علوانية" بين فرنسا وألمانيا هربتُ إلى إسبانيا منفردًا، إلى مدريد تحديدًا، وقد أمضيت فيها أسبوعًا من دون أن أعلمك أني هناك خشية أن أثقل عليك. لكني حينما شاهدت في يومي الأخير منشورك على الفيسبوك مع صورة لك إلى جوار تمثال "غويا" في معرضه المؤقت، أرسلت لك صورة مقتطعة للتمثال نفسه مع عبارة: يا ليتنا كنا معكم. دعوتني حينها إلى زيارة مدريد وقد كنتُ فيها، فعاودت إرسال صورة تمثال "غويا" من معرضه المؤقت لكني في المرة الثانية أرسلت الصورة كاملة، وكنت أقف إلى جوار التمثال مثل صورتك تمامًا. وكان جوابك: يا لعين! أين أنت؟! فسألتني متى أغادر مدريد، فكررت لعني حينما أجبتك: صباح الغد. وكانت سهرة قطعنا بها الأزقة والأرصفة في مدريد التي تخبرها مثلما تخبر خطوط كفك، سهرة على شرف غويا حتى الفجر. كتبت في دفتري يا سيدي كل تلك التفاصيل، الأماكن والأصوات والروائح، الأرصفة والتماثيل والمطر، وأحاديث الكتابة بصفتها قدر الكاتب ومدعاة حياته. تحدثنا طويلًا عن مشاريعنا الروائية المقبلة، وعن همنغواي ودون كيشوت، والقلق ومقاومة الفقد كتابةً، والعبودية العابرة للأعراق، وعن المبدع ووطنه وأيهما يكتب الآخر. والأهم من كل ذلك أني بعد ذلك اللقاء صرت في حالٍ أفضل، فشكرًا لك، وكن في حالٍ أفضل. اِكتب يا محسن واترك عنك هواجس المرض والموت، سلامة روحك وقلبك، فأي حظوة يملكها كاتب مثلك لن يموت؟ سعود السنعوسي