(الشعر الشعبي: صوت الناس)، هذا هو العنوان الرئيس الذي تصدّر غلاف المجلة العربية التي خصّصت في عددها الأخير الجميل ملفاً ثرياً للحديث عن الشعر الشعبي في السعودية والخليج وأنحاء من العالم العربي. ويلفت النظر في افتتاحية العدد وفي جميع مقالات الكُتَّاب السعوديين: (قاسم الرويس، وعبد الواحد الزهراني، وإبراهيم الشيخي)، اشتراكها في الإشارة إلى مسألتين كثيراً ما يأتي الحديث عنهما معاً: الأولى مسألة إقصاء وتهميش الشعر الشعبي في الجامعات وفي معظم المؤسسات الثقافية السعودية، والمسألة الثانية هي ربط موقف تلك الجهات بلغة إبداع الشعر العامية التي لا تُعنى كثيراً بضبط قواعد اللغة الفصحى. ورغم تحسن موقف بعض الجهات الثقافية مؤخراً إلا أنه لا يوجد أدنى شك في حقيقة وجود موقف سلبي يتجاوز، أحياناً، مستوى رفض الشعر الشعبي إلى مستوى الإساءة له والنظر إليه وإلى مبدعيه بازدراء، وعلى أنّه لا يستحق الدخول في دائرة الأدب الرفيع والجدير بالاهتمام والدراسة. والسؤال المهم الذي ينبغي وضعه هنا: هل السبب الحقيقي لرفض الشعر الشعبي في جامعاتنا هو لغته العامية؟ وهل العامية، التي يتكلّم بها الجميع تقريباً، خطرٌ يُهدّد حياة اللغة الفصحى؟ في سياق حديثه عن السرد العربي القديم يُنبهنا الباحث القدير الأستاذ سعيد الغانمي -شفاه الله- إلى سبب آخر مُختلف لرفض النخبة الأدبية، أو «حراس المعتمد الأدبي» كما سمّاهم، للأدب العامي أو الشعبي، فطبيعة اللغة العامية، كما يقول، هي الوضوح التام بحيث لا تحتاج إلى مزيد شرح لفهمها، ويتفاعل معها الجمهور تلقائياً دون الحاجة إلى وساطة مُعلّم شارح، ولا إلى العودة إلى مصادر «غريب اللغة»، وقد ترتقي هذه اللغة من كونها وسيلة اتصال يومي لتصبح «وسيلة اتصال أدبي وإبداعٍ ثقافي». وفي المقابل فإن النصوص التي تُرضي معايير «حراس المعتمد الأدبي» هي: «النصوص الصعبة، والتي تحتاج إلى شروح، وبالتالي تحتاج إلى النخبة الأدبية نفسها للقيام بوظيفة الوساطة اللغوية الشارحة لها»، ويذهب الغانمي إلى أن الدافع الحقيقي وراء السعي لاستبعاد النصوص الشعبية مهما بلغت درجة الإبداع فيها هو أن هذه النصوص «تتحدّى معايير النخبة الأدبية من جهة، وتُهددها بفقدان وظيفتها الأدبية الشارحة من جهة أخرى». ما يثير الإعجاب بكلام الغانمي أنّه يُحفزنا على تصويب أنظارنا في اتجاه آخر غير الاتجاه الذي أقنعنا خصوم الأدب الشعبي من الأكاديميين وأتباعهم بالتركيز عليه لعقود من الزمن، ويُمكّننا حديثه أيضاً من الحصول على إجابة مختلفة عن السؤال الذي طرحناه قبل قليل. فاللغة العامية التي يُبدع بها الأدب الشعبي لا تمثل خطراً على اللغة العربية الفصحى بقدر ما رأى فيها أولئك القوم خطراً يُهدد وظائفهم، لذلك سعوا إلى غرس فكرة أن لغة الشعر الشعبي العامية لغة: خطيرة ومشوهة وفاسدة، وبعيدة عن العربية الصحيحة؛ لذلك ينبغي شن الحرب عليها ووضع العوائق أمام دخولها للجامعات وللمؤسسات الثقافية، في حين يلحظ المتابع التساهل في تدريس نصوص فصيحة باردة وهزيلة، وطباعة أعمال يصعب على المتلقي فهمها أو تمييز الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه لفرط ما فيها من الركاكة والغموض.