في عالمٍ مليءٍ بالتقنيات الحديثة التي وجدنا أنفسنا من خلالها عالقين بين شاشات الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعية، مع ابتعادنا عن التفاعلات الاجتماعية واللقاءات الإنسانية، يتجسد في الأذهان الدور المهم الذي تلعبه مراكز الأحياء الاجتماعية في تعزيز الاندماج الاجتماعي وبناء المجتمع. تلك المراكز التي تعد واحةً تنمويةً ومحوراً لتعزيز الروابط الاجتماعية وتقوية الانتماءات المجتمعية وتحسين جودة الحياة ورفع المستوى الثقافي للمجتمع وتقوية القيم والمبادئ والعادات والتقاليد ومواجهة المشكلات الاجتماعية كانتشار الجريمة بين أفراد المجتمع. ما دعاني للكتابة عن هذا الموضوع ما لاحظته خلال فترة دراستي العليا في أستراليا؛ فقد شاهدت العديد من المراكز في عدد من الأحياء التي يطلق عليها اسم «مراكز المجتمع» "Community Center" والتي تشكل جزءاً حيوياً من النسيج الاجتماعي الأسترالي. فهي تقدم مجموعة واسعة من الخدمات والمرافق، اعتمادًا على احتياجات المجتمع المحلي كالمكتبات وغرف الفنون والحرف اليدوية والمرافق الرياضية والترفيهية ومختبرات الكمبيوتر ومراكز لرعاية الأطفال وكبار السن. دفعتني مشاهداتي تلك إلى التأكيد على أهمية تفعيل وتطوير مثل هذه المراكز في مجتمعنا السعودي، لما تقدمه من برامج وخدمات تلبي احتياجات جميع أطياف المجتمع. وقد تناول عدد من الكتّاب السعوديين في كتاباتهم أهمية إقامة مراكز الأحياء الاجتماعية في المملكة العربية السعودية. ففي دراسة صادرة عن مركز رؤية للدراسات الاجتماعية بعنوان: «مراكز الأحياء.. إحدى وسائل تجاوز مشكلات توسع المدينة السعودية» لعبد الله السدحان والتي أكدت على أهمية إنشاء مراكز اجتماعية في الأحياء للتغلب على التحديات التي تواجه المجتمع في المدن السعودية، والمساعدة على تقوية التواصل والترابط بين الأفراد في الحي والحفاظ على القيم والمبادئ والعادات والتقاليد. كما ستلعب دوراً فعالاً في مواجهة المشكلات الاجتماعية على مستوى الحي، وتوظيف أوقات الفراغ بطريقة مفيدة للفرد والمجتمع. وفي دراسة أخرى بعنوان: «دور مراكز الأحياء في تعزيز الممارسة الرياضية لدى المجتمع السعودي» لسماح الغامدي والتي كشفت نتائجها أن مراكز الأحياء تلعب دورًا حيويًا في تعزيز ممارسة الرياضة في المجتمع السعودي، وأن تجهيزات هذه المراكز بالمكان والأدوات والبرامج تزيد من انخراط الأفراد فيها. كما تطرق الباحث مانع الدعجاني في بحثه عن: «الدور الاجتماعي لمراكز الأحياء وكيفية تطويرها» والتي بيّنت نتائج البحث العديد من النقاط البارزة، ومنها: أن عدد العاملين في مراكز الأحياء قليل، وأنهم ليسوا متخصصين في المجال، وأن معظم المباني المستخدمة لتلك المراكز هي مبانٍ مؤجرة وغير كافية لدعم الأنشطة المطلوب تنفيذها. كما أنها تقوم بتنظيم العديد من الأنشطة الترفيهية والتدريبية التي تعزز التواصل بين سكان الحي. ولكنها تواجه تحديات مالية وإدارية متعددة تتمثل في تعارض الاختصاصات والمهارات لدى الموظفين الإداريين في هذه المراكز. وفي تقرير صحفي نشر في صحيفة عكاظ بتاريخ 21 - يناير - 2022م بعنوان: «مركز الأحياء.. سلال وبهرجة!» يتحدث عن مراكز الأحياء في الطائف ويسلط الضوء على تحدياتها واقتراحات لتطوير دورها. يتضمن التقرير دراسة ماجستير أجريت في جامعة الطائف من قبل هناء عبدالرحمن الثبيتي والتي تؤكد ضرورة توجيه اهتمام هذه المراكز لجميع فئات المجتمع وأن تتنوع أنشطتها لتحقيق أهدافها المنشودة. ويستعرض التقرير مشكلات المراكز ويقدم اقتراحات لتفعيلها، ويطالب بأهمية وجود استراتيجية وخطة عمل واضحة للمراكز، ويقترح إصدار دليل ترفيهي لتحسين نوعية الأنشطة المقدمة في المراكز وتلبية احتياجات المستفيدين. وبناءً على ذلك، نستنتج أن مراكز الأحياء ليست مجرد ترف أو بهرجة، بل هي ضرورة ملحة تلزمنا بابتكار حياة اجتماعية صحية ومناسبة لأفراد مجتمعنا. ونحن هنا نقصد مراكز الأحياء التي يتوفر فيها جميع المرافق التي تساهم في تثقيف وبناء وتنمية المجتمع وتقوية قيمه. فيُفترض أن يتوفر في هذه المراكز مرافق متنوعة تخدم مختلف شرائح المجتمع، منها مكتبات عامة غنية بالكتب والمواد التعليمية، ومسابح تحسن الصحة واللياقة البدنية للمجتمع، ومرافق رياضية تشجع على ممارسة الرياضة واكتشاف المواهب الرياضية، وأماكن للفعاليات الثقافية والفنية كالمسارح والصالات والمعارض. وأتمنى أن تكون هذه المراكز موزعة ومجهزة في عدد من أحياء المدن الرئيسة التي يقطنها مجموعة كبيرة من المواطنين والمقيمين، لتكون مساحات للتعارف والتعايش والتسامح بين أهالي الحي. وبالإمكان تقديم الخدمات واستخدام مرافق هذه المراكز برسوم مالية رمزية مما يساعد في تغطية تكاليف إنشائها وصيانتها وتنظيمها للأنشطة والفعاليات الثقافية المتنوعة. ختاماً، إن مراكز الأحياء ستسهم بقوة في تطوير جوانب التعليم والتثقيف، وتحفيز المشاركة المجتمعية، وتعزيز قيم المسؤولية والتعاون بين مختلف فئات المجتمع، ولا شك أن اشتمالها على مرافق وخدمات تغطي جميع أفراد المجتمع ستلعب دوراً مهماً في بناء مجتمع سعودي متطور ومتماسك ومزدهر، وستكون مصدراً من مصادر ترسيخ الانتماء الوطني والثقافي، وعاملاً مهماً في تطوير وتحسين جودة الحياة للمواطنين وتعزيز التنمية المستدامة وتحقيق الأهداف الاجتماعية والثقافية المنشودة في رؤية المملكة 2030.