اليوم الصراحة أو الشفافية أصبحت تشكل منعطفا مهما في العلاقات بين الناس وبالذات الحميمة كالعلاقات الزوجية. ومن خلال تحليل بعض المشكلات النفسية والاجتماعية يتضح أن عنصر الصراحة والشفافية والبعد عن اللف والدوران بين أي طرف هو محور مهم لاستمرار العلاقة والحد من سوء الفهم ومن عدم أو حتى سوء الظن وخلق حالة من الثقة المتبادلة.. وفي عدم وجود الصراحة والشفافية المسؤولة ينمو الشك، والغيرة وتصبح مرضية لأن الشك يولد في عدم وضوح المعلومة وغياب الحقائق.. ناهيك عن خلق حالة من أزمة الثقة. اليوم في عدم وجود الصراحة والشفافية عموما تنمو الشائعات وتتغذى وتصبح مادة مطلوبة لمن يتفننون في نشرها وأيضا المستقبلين لها ومن تشبع فضولهم.. وفي عدم وجود الصراحة المسؤولة ينمو الكذب على حساب الصدق والخوف مكان الأمن والقلق، وتبدأ أزمة الثقة بين الناس.. المهم هنا أن نفرق بين الصراحة المطلقة التي تلغي المستوى المطلوب من الخصوصية الفردية وبين الصراحة التي تعبر عما في النفس بصدق وبدون لف ودوران، وبين الصراحة الوقحة التي تمس كرامة الناس وقيمهم وثقافتهم.. وأيضا أن نفرق بين صراحة الديمقراطية المنفلتة التي ليس لها قوانين وأعراف وحدود، وبين ديمقراطية الصراحة التي تراعي حقوق الآخر وتحترمه ولا تؤذي مشاعره. اليوم الصراحة في المفاهيم النفسية والسلوكية هي مهارة فكرية وسلوكية تتميز بالتعبير المسؤول المباشر والمنطوق، شريطة عدم المساس بكرامة الآخرين وإيذاء مشاعرهم وعدم الشعور بالخوف والقلق وجلد الذات.. وهذا ما أشارت إليه جميع الدراسات السلوكية والمعرفية، وهي ما يسمى توكيد الذات وكيف يكون الشخص واثقا بنفسه ولديه مستوى جيد من تحقيق الذات.. على عكس عدم توكيد الذات أو السلبية في التعبير والتواصل وأيضا التعبير العدواني أو العدواني السلبي. اليوم ونحن ندرب الأفراد على توكيد الذات أثناء العلاج السلوكي المعرفي لاحظنا أنه كلما ازدادت مهارات توكيد الذات، زاد التفاهم والتناغم في العلاقات وتم تجاوز كثير من الشكوك وسوء الفهم والمخاوف، وخاصة عندما يتعلم الشخص مهارة التعبير الصريح من منظور ثقافي، فالتعبير التوكيدي الذي يمارس في مجتمعات قد لا يصلح في مجتمعات أخرى نتيجة للمعايير الثقافية والخصوصية لكل مجتمع وقد يفهم من يعبر بصراحة توكيدية بشكل خاطئ بالرغم أنه صادق أو عفوي، وقد تواجه التوكيدية في مجتمعات بردود فعل عدوانية أو سلبية، إما لأن الناس في هذه المجتمعات يفتقرون إلى مهارات توكيد الذات، وإما لأنهم يفضلون الحياة المزدوجة الكتومة السرية لممارسة كثير من السلوكيات غير المقبولة التي هم غير راضين عنها أو أنهم تعرضوا لمواقف مؤلمة عندما كانوا صرحاء في حالة من حالات الصفاء مع شركائهم أو مع آبائهم، فيفضلون السلبية والانسحاب على التوكيدية.. إلا أن ذلك مع الوقت يجعلهم عرضة للشكوك المرضية وللقلق والخوف وتدني مستوى الثقة بالنفس وتقدير الذات. اليوم وفي مثل مجتمعنا لا بد أن يتفق أي طرفين على مبدأ الصراحة بدقة، على أن يتم توضيح الخطوط الحمراء من عدمها، وأن يشمل الاتفاق الالتزام بعدم استغلال الصراحة كوسيلة ضغط عند الخلافات وبالذات الزوجية وبين الأصدقاء، فهذا نوع من أنواع العدوان غير الأخلاقي، كما يفضل أن يختار الوقت والمكان المناسبين للتعبير الصريح وباتفاق الطرفين على كون الصراحة ترتبط في بعض الأحيان بالأمور السرية والخاصة فإنها تحتاج إلى بعض التهيئة والاستعداد للتقبل، وفي حالة الخلافات وقيام أحد الطرفين بإفشاء ما صرح به الآخر دون رضاه فإن على الآخر ألا يتجه لعمليات التبرير والمقاومة، فهذه أفضل وسيلة للقضاء على هذا السلوك غير الأخلاقي في مهده وعدم المبادرة بالسلوك نفسه والإصرار على الموقف وعدم السماح للغير بالتدخل، إلا للمختصين أو العقلاء وفي أضيق الأمور.