من الناس من يبارك الله في علمه وفي كل أحواله العامة فيكتب له القبول في قلوب الناس، ونميل إليه حتى ولو لم يكن من الأعلام المشهورين، وحينما حل وأقام يبارك الخالق في حديثه وكلامه، ويصغى إليه ويقبل نصحه وإرشاده، وما ذاك إلاّ من توفيق الله عز وجل وفضله وكرمه، فليست العبرة بكثرة المعلومات وغزارة العلم، فكم من أناس كانوا بهذه الصفة، لكن لم يبارك الله في علومهم، لذلك لم ينتفع الناس بهم، وكذلك نقاء السريرة وإخلاص النية لله عز وجل في نشر العلم هو الأساس والركيزة في هذا الأمر الحسّاس الذي قد يغفل عنه البعض، اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح. وشخصيتنا هذه من أولئك الذين رزقهم الله العلم وبارك الله في هذا الموروث الذي هو أعظم إرث ميراث الأنبياء، إنه الشيخ الزاهد عبدالرحمن بن سالم الكريديس -رحمه الله- أحد علماء القصيم الذين لم يتخذوا العلم سلماً للشرف والمجد والشهرة والمناصب أو لغرض دنيوي، بل طلب العلم لله أحسبه كذلك والله حسيبه، فالشيخ ابن كريديس ممن ينطبق عليهم قول الإمام الشافعي في شأن الصالحين الزهاد: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا وقد صدر شيخنا الأديب حمد الحقيل هذه الأبيات في أول كتابه القيم (الوحشيات والأوابد)، وقد رزق الله شخصيتنا أعظم كنز في الوجود وأثمن من الورق والذهب ألا وهو القناعة التي قيل عنها هي الكنز الذي لا يفنى، فيقول الشاعر الفحل أبو فراس الحمداني -رحمه الله- من قصيدة له: إن الغني هو الغني بنفسه ولو أنه عاري المناكب حاف ما كل ما فوق البسيطة كافيًا فإذا قنعت فكل شيء كاف وهو مع هذه القناعة من الذين علموا وعملوا، وهذا كذلك من توفيق الله له، وفي هذه السطور نلقى شيئاً من حياته العلمية. صاحب القرآن وعبدالرحمن بن سالم الكريديس -رحمه الله- من مواليد البكيرية 1315ه هكذا أثبته المؤرخ الفقيه عبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) في ترجمة شخصيتنا، وقال بالنص تقريباً، أمّا محمد القاضي في كتابه (روضة الناظرين) فلم يذكر تاريخ الميلاد، والنبذة التي أرسلها الأخ محمد الكريديس عن سيرة شخصيتنا فقد ذكر تاريخ ميلاده سنة 1315ه، نشأ نشأة صالحة وأول مفتاح له في فتوحات حب العلم والتعلق به هو حفظ القرآن الكريم، وسوف يصاحب القرآن الكريم طيلة حياته ليس قراءة فقط بل سوف يعلمه أجيال بلدته البكيرية فهو من المعلمين الذين تفرغوا للقراءة والتلقين. حُب وشغف وكان من سعادة عبدالرحمن الكريديس -رحمه الله- أن حبّب إليه العلم وأهله، فكان هذا الحب والشغف أن قاده وسيّره إلى أن يلازم حلقات الدرس والتعليم بالمساجد، وقد سرد القاضي في كتابه (روضة الناظرين) مشايخه وأساتذته، وقد انفرد بذكر مشايخه الذين تلقى عنهم الكريديس، أمّا البسام فلم يورد من مشايخه إلاّ أثنين في كتابه (علماء نجد)، أمّا المشايخ الذين سردهم القاضي في كتابه فيقول: من أبرز مشايخه الشيخ عبدالله بن سليمان بن بليهد وأخوه حمد بن بليهد، وعبدالله بن محمد بن سليم حينما كان قاضياً في البكيرية ورحل إليه في بريدة ولازمه، كما لازم الشيخ عمر بن محمد بن سليم، وقرأ على الشيخ محمد بن مقبل الورع الزاهد حيث لازمه سنين، وهو أكثر مشايخه نفعاً له، وقرأ على الشيخ عبدالعزيز بن سبيل، وجد واجتهد حتى حصل على محصول جيد -انتهى كلامه-، وعبدالله البسام في كتابه (علماء نجد خلال ثمانية قرون) قد أورد من مشايخه اثنين كما ذكرت وهما الشيخ محمد بن مقبل، وانفرد بذكر شيخاً له وهو الشيخ محمد بن عبدالله الخليفي وهو والد إمام الحرم المكي الشيخ عبدالله الخليفي -رحمه الله-. قرآن كريم وعبدالرحمن الكريديس -رحمه الله- لم يتولَّ أي منصب رسمي، بل أوقف نفسه ووقته وحياته كلها لتعليم ناشئة بلدته البكيرية تعليم القرآن الكريم وإتقانه، ومن المعلوم أن المدرسة النجدية لتعليم القرآن الكريم لا تطبق أحكام التنوين والنون الساكنة، لكنها تعتني بتصحيح القراءة عبر الحركات مثل: النصب والجر والسكون والرفع، ولما فتحت المدارس النظامية أدخلت مادة التجويد ثم بعدها حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد التي جلب لها أساتذة متخصصون في التجويد وفي القراءات، وبهذا انتشر التجويد وأصبح أساسياً في تعليم القرآن الكريم، بل أضيف ما هو زائد عن علم التجويد علم المقامات، وهو تحسين الصوت وهذا شيء زائد على أحكام التجويد. حفظ واتقان وحدّثني الباحث صالح بن عطا الله الخزيم قائلاً: "إن الشيخ عبدالرحمن الكريديس كان حازماً جداً في تعليم القرآن الكريم لا يتساهل مع تلاميذه في الحفظ والإتقان والإجادة"، ويقول: "تخرج عليه الكثير من أهالي البكيرية وتحت يده تعلموا القرآن الكريم وحفظه عن ظهر قلب، فكان ذا هيبة وشخصيته قوية"، ويضيف الخزيم أن "عبدالرحمن الكريديس تعلم القرآن الكريم على يد عمه الشيخ المقرئ صالح الكريديس وقد لازم عمه 20 عاماً، فكان في قمة الضبط في تعليم القرآن الكريم حتى أن بعض التلاميذ الذين يدرسون القرآن الكريم عند مقرئين آخرين يذهبون إليه رجاء الإتقان في تدريس القرآن الكريم؛ ولأنه متميز عن غيره من المقرئين"، مضيفاً: "أذكر درست عليه في عام 1402ه قبل وفاته بعدة أشهر، وشرعت في قراءة سورة البقرة وكان معي دفتر أسجل فيه الأخطاء التي أقع فيها، فكان دقيقاً جداً غاية الدقة في مخارج الحروف"، ومن جانب آخر يذكر الخزيم أن الكريديس قد عاد إلى تعليم القرآن الكريم بعد ما انقطع عنه عندما فتحت المدارس النظامية، ومن جوانب شخصيته نوّه الخزيم أن الكريديس فيه دعابة وفكاهة خارج الدرس، فهو صارم في دروسه مرح مع الآخرين، وكانت علاقته مع الوالد الشاعر عطا الله الخزيم جيدة. عدد من طلابه وذكر محمد القاضي في كتابه (روضة الناظرين) والنبذة في سيرة عبدالرحمن الكريديس -رحمه الله- التي زوّدني بها محمد الكريديس والشيخ عبد الله البسام في كتابه علماء نجد خلال ثمانية قرون تلاميذه الذين نهلوا منه وعلمهم القرآن الكريم، وقد مكث شخصيتنا يدرس القرآن الكريم منذ عام 1350ه حتى عام 1380ه في مسجد تركي التركي، ثم عاود التدريس منذ عام 1398ه مرةً أخرى، ومن تلاميذه الشيخ صالح بن محمد اللحيدان -رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق- والشيخ صالح بن ناصر الخزيم والشيخ عبدالله بن إبراهيم الخزيم والمُعلم بمعهد الرياض العلمي محمد العلي البراك والشيخ عبدالعزيز الشريدة والشيخ صالح المحمود والشيخ صالح بن عبدالعزيز الخضيري والشيخ محمد بن إبراهيم الحديثي -رئيس محاكم أبها سابقاً-، هؤلاء بعض تلاميذه وإلاّ فإنه درّس الكثير والجمهرة من أهالي البكيرية لثلاثة عقود متتالية لم ينقطع فيها في تدريس الناشئة القرآن الكريم، فليس من المعقول أن يكون عددهم بهذه الأسماء، ولكن المراجع التي ترجمت له سردت المشاهير من هؤلاء التلاميذ، ولا شك أن أعظم تعليم وأفضله هو تعليم وتدريس كتاب الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وبهذا نال شخصيتنا هذه الخيرية التي وصف بها الرسول صلى الله عليه وسلم من كان بهذه الحالة والمكانة وهذا ما نرجوه لشخصيتنا عند الله عز وجل. رفض القضاء وعبدالرحمن الكريديس -رحمه الله- من الزهاد ومن أهل الورع والتقى والصلاح، وقد عرض عليه القضاء فرفضه وامتنع تورعاً منه، وهو ليس بدعاً في هذا الامتناع، فله سلف من العلماء أمثال الإمام أبو حنيفة الذي رفض القضاء، والإمام سفيان الثوري كذلك هرب من تولي القضاء، والليث بن سعد، والأسماء كثيرة في القديم والماضي القريب، ونقل عبدالله البسام كلاماً عن الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عن الكريديس أنه قال "لا يقل عن علومه الفقهية عن زملائه الخزيم إلاّ أنه لم يتولى أعمالاً قضائية"، ثم ذكر الشيخ البسام عن شخصيتنا أنه من العلماء الأتقياء، فهو صاحب زهد وورع، عزف عن المناصب واتجه إلى تعليم القرآن الكريم. أبناء عبدالرحمن وأنجب عبدالرحمن الكريديس -رحمه الله- عدة أبناء منهم عبدالعزيز من مواليد عام 1350ه درس على يد والده القرآن الكريم والأصول الثلاثة، ودرس بالمعهد العلمي بمكة وأصبح عضواً بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة عام 1376ه، ثم صار معلماً في مدرسة العزيزية بمكة الابتدائية سنة 1380ه، ثم مساعداً لإمام المسجد الحرام الشيخ عبدالله الخليفي وكان يساعده في العشر الأواخر في رمضان وبقية الصلوات الخمس، وتزوج ابنة الشيخ عبدالله الخليفي، ونظراً لقربه من الخليفي استفاد منه من حيث العلم الشرعي، والجدير بالذكر أن لعبدالعزيز الكريديس تسجيلات صوتية حينما كان إماماً للحرم المكي من عام 1382ه حتى عام 1395ه، وتقاعد عن التدريس عام 1406ه، وكان من الرجال الأخيار الصالحين واتصف بالخلق الطيب والمعاملة الحسنة وطيب المعشر ودماثة الأخلاق، توفى عام 1416ه رحمه الله وغفر له، أمّا الابن الثاني لشخصيتنا فهو سالم من أعيان أسرة الكريديس ومن مقدميهم ومن أهل المشورة وأهل الخير والبر والإحسان تبرع بمكتبته وجعلها وقف، وتوفي عام 1441ه -رحمه الله- وكان قارئاً ومثقفاً، ومن ذرية شخصيتنا صالح وتوفي رحمه الله، وعبدالله وإبراهيم وهما على قيد الحياة ختم الله لهما بخير. مرثية في شخصيتنا في شهر شعبان لعام 1402ه توفي عبدالرحمن الكريديس -رحمه الله- عن عمر يناهز 87 عاماً تقريباً، أفنى شطراً كبيراً من حياته لخدمة القرآن الكريم ويا لها من خدمة، فهي الشرف والمجد والعز في الدنيا والسعادة في الآخرة إن شاء الباري، وقد رثاه تلميذه المقرئ صالح بن عطا الله الخزيم ونذكر بعض أبياتها: لله درك أيها الحبر الذي ملأ القلوب حماسة وتفاني تزهو المهابة شخصه وجنابه وكذلك أهل الذكر والقرآن أمضى الليالي والدهور مجاهداً في حلقة للضبط والإتقان كل الشيوخ تخرجوا من عنده ولهم بذاك الفخر من إنسان شيخ تحدّر من كرام صفوة في العلم همتهم وفي العرفان آل الكريديس الذين تشرفوا في حمل مشعله بذي الأزمان يا رب ارحم شيخنا وأظله في روضة يرضى بها بجنان وفي الختام أشكر محمد بن سالم الكريديس على تزويدي بصورة من كتب جده وسيرته، فكان مثالاً للخلق الراقي والتعامل الطيب، ولا يستغرب منه هذه الأخلاق، فهو من أسرة كريمة فاضلة لم يعرف عنها إلاّ مكارم الأخلاق. سالم بن عبدالرحمن الكريديس محمد بن سالم بن عبدالرحمن الكريديس الباحث صالح بن عطا الله الخزيم أحد الكُتب من مكتبة عبدالرحمن الكريديس خط عبدالرحمن الكريديس مسجد تركي التركي الذي درّس فيه عبدالرحمن الكريديس القرآن الكريم إعداد- صلاح الزامل