منطقة الشرق الأوسط على امتدادها الجغرافي وعمقها التاريخي مستهدفة بشكل ممنهج بالتدمير والتخريب ونشر الفوضى الدائمة لتبقى المنطقة غير آمنة، والمجتمعات غير مستقرة، والاقتصادات بدائية، والتنمية متخلفة، والشعوب في جهالة علمية وفكرية ومهنية وتقنية لتصبح غير قادرة على النهوض بمجتمعاتها ودولها.. المصالح العُليا للمجتمعات تختلف باختلاف مكانة ومستوى وأهداف وغايات تلك المجتمعات في النظام الدولي، فإن كانت تلك المصالح العليا تتمثل في تنمية الموارد البشرية وتأهيلها تأهيلاً فكرياً وعلمياً ومهنياً وتقنياً، وتنمية الموارد الطبيعية لتكون مصدراً رئيساً للدخل ومكاناً مهماً للتوظيف، وبناء مجتمع على أسس ومبادئ وقيم متينة تساهم في تماسكه وتوحيد صفوفه، والارتقاء بمكانة المجتمع لأعلى المستويات والتصنيفات الدولية والعالمية، فإن ذلك المجتمع البنَّاء سوف يركز أعماله ونشاطاته وخططه نحو تحقيق أعلى معايير التنمية الاقتصادية والتطوير والتحديث في جميع المجالات، بالإضافة للاهتمام المتواصل من أجل استتباب الأمن ونشر السلام والمحافظة على الاستقرار الاجتماعي والسياسي على المستويات الداخلية والجوار الجغرافي والإقليمي. نعم، إنها معادلة سياسية بين متغيرين رئيسَين، حيث التنمية والأمن والسَّلام والاستقرار تؤدي حتماً للتطور والبناء والتقدم على جميع المستويات البشرية والسكانية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية والسياسية في المجتمعات المتجاورة مما يجعل المنطقة والإقليم متقدماً ومزدهراً وصلباً في مواجهة الفتن الهدامة والنزاعات المدمرة. أما إن كانت تلك المصالح العليا تتمثل في زيادة النفوذ السياسي والاجتماعي والديني والمذهبي والعرقي، وسلب وسرقة ثروات وخيرات وموارد المجتمعات الأخرى القريبة والبعيدة، والاستيلاء على أراضي وشواطئ وبحار وأنهار المجتمعات المجاورة أو البعيدة، فإن ذلك المجتمع الهدام والمتطرف سوف يركز أعماله ونشاطاته وتوجهاته وخططه نحو زعزعة أمن وسلم واستقرار المجتمعات المستهدفة بالسلب والنهب والتخريب، وسوف يعمل على تدمير الأسس الاقتصادية والصناعية والعلمية والفنية حتى تبقيها مجتمعات متخلفة في جميع المجالات، وسوف تعمل على تدمير أسس العملية التعلمية حتى تنشأ أجيال جاهلة علمياً وفكرياً ومهنياً في جميع المجالات وعلى كل المستويات لتكون خاضعة باستمرار لسلطة المحتل والمستغل سواءً كان قريباً أو بعيداً. نعم، إنها معادلة سياسية بين متغيرين رئيسين، حيث الهدم والخراب والتدمير الممنهج للاقتصادات والمجتمعات والنظم السياسية يؤدي بالضرورة إلى إنهاك المجتمعات وزعزعة استقرارها وتفتيت وحدتها وتجهيل شعوبها حتى تصبح مجتمعات سهلة الانقياد، وأراضيها سهلة الاحتلال، وثرواتها سهلة السرقة والنهب والسلب. إننا أمام نموذجين تتحقق من خلالهما المصالح العليا لأي مجتمع من المجتمعات، وفي أي منطقة من المناطق، وفي أي إقليم من أقاليم العالم، فإذا نظرنا إلى منطقة الشرق الأوسط -الممتدة من إيران وأفغانستان شرقا إلى المغرب وموريتانيا غرباً، ومن تركياً شمالاً إلى اليمن وأثيوبياً جنوباً- فإننا نجدها تعيش في ديمومة النموذج الثاني المتمثل بنموذج الهدم والخراب والتدمير الممنهج الذي يستهدف مجتمعاتها ونُظُمها السياسية وثرواتها البشرية والمادية والطبيعية. نعم، هكذا هي منطقة الشرق الأوسط على امتدادها الجغرافي وعمقها التاريخي، حيث الاستهداف الممنهج والمستمر بالتدمير والتخريب ونشر الفوضى الدائمة لتبقى المنطقة غير آمنة، والمجتمعات غير مستقرة، والاقتصادات بدائية، والتنمية متخلفة، والشعوب في جهالة علمية وفكرية ومهنية وتقنية لتصبح غير قادرة على النهوض بمجتمعاتها ودولها. وإذا كان ذلك هو حال منطقة الشرق الأوسط الذي استهدف أمنه وسلمه واستقراره بأحداث عظيمة خلال تاريخه البعيد والمتوسط والقريب، فإن ذلك المستوى من الاستهداف الممنهج لنشر الفوضى في المنطقة تصاعد تصاعداً كبيراً حتى أصبح ظاهراً وجلياً ومعلناً منذ بدء الصراع المسلح في قطاع غزة بين الفصائل الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلية في 7 أكتوبر 2023م. نعم، قد يؤشر هذا التاريخ نظرياً لمرحلة صراع جديدة في منطقة الشرق الأوسط بين الفلسطينيين الباحثين عن حقهم في تقرير مصيرهم والبحث عن الحرية من المحتل الإسرائيلي الذي استعمر أرضهم وسلبهم ثرواتهم وخيراتهم ودمر مجتمعاتهم، إلا أن ما نطقت به الخطابات الإسرائيلية والغربية المؤيدة للمحتل، وما ذهبت له الآلة العسكرية الإسرائيلية من وحشية في استهدافها للأبرياء الآمنين، وما جاءت به الأصوات الإقليمية المضادة بجهلها من شعارات بعيدة عن الحكمة والعقلانية، يؤشر لمرحلة جديدة من مراحل النزاع في منطقة الشرق الأوسط، حيث ساحتها النظرية قطاع غزة، بينما ساحتها العملية منطقة الشرق الأوسط على امتدادها حتى وإن اختلفت درجة التأثير السلبي والتدميري والتخريبي من مجتمع إلى مجتمع داخل هذا الامتداد الجغرافي الشاسع. نعم، إن الحراك والأحداث والخطابات والشعارات والتداخلات الدولية وردود الأفعال المتسارعة والمتسرعة جميعها تشجع على العنف، وتحرض على مواصلة الحرب وزيادة وتيرة القتال، وتوظف الشعارات الحضارية والثقافية والدينية والمذهبية والعرقية والفئوية لحث أتباعها على مواصل الاقتتال وزرع روح الانتقام من الآخر المختلف. نعم، قد تكون هذه الروح العدائية والسلبية ليست جديدة بين مجتمعات الشرق الأوسط المتصارعة فيما بينها، إلا أنها لم تكن معلنة وظاهرة وجلية بهذا المستوى المتدني في الخطابات السياسية والممارسات العسكرية البشعة والجرائم ضد الإنسانية. نعم، إن السابع من أكتوبر 2023م وما رافقه من ردة فعل غربية مؤيدة وداعمة لقوات الاحتلال الإسرائيلية تجاه قطاع غزة وشعبه الأبرياء، يدلل على أن هناك رغبة إسرائيلية وغربية في دفع المنطقة نحو فوضى شاملة هدفها إنهاء الآمال الفلسطينية بإقامة دولتهم المستقلة، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم وتشتيتهم في مختلف المجتمعات والدول القريبة والبعيدة، والاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم وثرواتهم ومواردهم في المناطق المحدودة التي يتواجدون فيها، بالإضافة لرغبة إسرائيل القديمة الجديدة بالقضاء على السلطة الفلسطينية الممثل الوحيد والشرعي للدولة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني.. وإذا كانت هذه أهداف رئيسة للعدوان الإسرائيلي البشع على الأبرياء في قطاع غزة، فإن هناك أهدافاً أعظم تتطلع لها إسرائيل من وراء الدفع بالفوضى الأمنية والاجتماعية والسياسية إلى أقصى مستوياتها في دول الجوار الفلسطيني بشكل خاص، وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. نعم، إن الأحلام والآمال والتطلعات الإسرائيلية في المنطقة العربية ليس لها حدود مثلها مثل عدم وضعها لحدود جغرافية منذ قيامها كدولة في 1948م. ولتتحقق هذه الأحلام والآمال والتطلعات بيسر وسهولة وتكاليف قليلة على حساب المجتمعات العربية، فإن الدفع للفوضى السياسية والأمنية والمجتمعية بالدول العربية يسهل عليها التوسع على حساب أراضيهم ومجتمعاتهم ودولهم، والدفع لهذه الفوضى المدمرة التي تسعى لها إسرائيل ومن خلفها القوى الغربية تتأتى من عدة طرق: إما من خلال تصعيد عملياتها العسكرية الاجرامية تجاه الأبرياء في قطاع غزة لتدفع الشعوب العربية للخروج على حكوماتها وإعلان الثورة عليها واسقاطها، لتجد إسرائيل في ذلك فرصة سانحة ومبرراً للتوسع لحماية أمنها بالتواجد في المناطق العربية المجاورة.. وإما من خلال استفزاز الأنظمة السياسية العربية المجاورة لإسرائيل للتدخل لمنع العدوان على الأبرياء في قطاع غزة لتجد إسرائيل في ذلك مبررا لإعلان الحرب على تلك الدولة او الدول العربية لتتوسع في أراضيهم كما حدث في يونيو 1967م.. وإما من خلال استفزاز الفصائل الفلسطينية وأحزاب المقاومة المتواجدة في الدول العربية المجاورة لإسرائيل لتدخل في صراع غير متوازن مع قوات الاحتلال الإسرائيلية مما يعطي إسرائيل المبرر للتوسع في تلك الأراضي العربية بدعوى مواجهة تلك الفصائل.. وإما من خلال دفع الشعوب والمجتمعات العربية لتتصارع فيما بينها انطلاقاً من رغبة كل شعب ومجتمع للدفاع عن الفلسطينيين الأبرياء من الاعتداءات الوحشية، لتجد إسرائيل في ذلك فرصة سانحة لزيادة التوتر والفرقة والفتنة بين الشعوب والمجتمعات والأنظمة العربية لتتوسع على حسابهم في جميع الاتجاهات. نعم، إن الأحلام والآمال والتطلعات الإسرائيلية في الأراضي والثروات العربية تتحقق فقط إن تحققت الفوضى الأمنية والاجتماعية والسياسية في الدول العربية، وفي الدول المجاورة حدودياً لإسرائيل بشكل خاص. وفي الختام من الأهمية القول إن على الشعوب العربية الحذر التام من مُخططات أعدائهم المحليين -الخونة والعملاء- وأعدائهم الإقليميين -إسرائيل وإيران- الهادفة للدفع نحو فوضى إقليمية شاملة تدمر المجتمعات العربية القائمة، وتزعزع أمنها وسلمها واستقرارها السياسي، وتفقدها أرضها وأراضيها التي استعادتها بالاتفاقيات الدولية، وإذا كُنَّا نحذر من طبيعة الممارسات الإسرائيلية وأهدافها الاستراتيجية العليا، فإننا كذلك يجب أن نحذر من تلك الأصوات العربية العميلة والخائنة التي تدعو للفوضى الشاملة من خلال المطالبة بإلغاء الاتفاقيات الدولية وإعلان الحرب على إسرائيل والغرب سعياً منها لإدخال المجتمعات العربية في صراعات غير محسوبة تفقدها مكتسباتها التي بنتها خلال العقود الماضية.