الرسائل ليست ورق، بل روح تتحدث معك فأنت حين تقرأ تتخيل كاتبها، وكيف جلس وكيف أمسك القلم وتستعين بعقلك في صنع نظرة خاصة، وابتسامة تندرج من هذه الجملة، ودمعة من سطرها الأخير. ومع كوننا في زمن توفرت فيه كل وسائل التواصل؛ إلا أنه لا زال هناك ما يُقال، لفرد ولمجتمع، وللحياة أجمع كاعتذار وتساؤل وأمل، كرغبة في إيصال صوت ومحاولة لعناق طويل. لذا خصصت «الرياض» مساحة للرسائل الأدبية عبر سلسلة بعنوان «علمتني الحياة «، نقرأ منهم تجاربهم ونتلهف لسماع قصصهم ونتساءل معهم ونتعلم من أحرفهم. عزيزي الحكّاء عدي الحربش.. كان من حُسن طالعي أن أكون ضمن الحضور بجمعية الأدب المقارن في صيف الرياض هذا العام، إذ التحقت بتلك الجلسة التي حكيت لنا فيها حكاية جارية الأميرة عليّة أخت هارون الرشيد، ومغامرتها لأجل حفظ سرّ عليّة ونجاتها. استمعت جيدا للحكاية وسط صمت وسكينة خيّمت على كل الحضور، وبين موجات هذا الصمت العتيد كان هنالك نداء عذب يأتي من الماضي السحيق في داخلي: صور لجلسة مشابهة في أقاصي بعيدة، حيث علت أصوات البشر الذين عجّت بهم مقاهي الحكائين في بغداد والشام مصر وغيرها، وشعرت بعظمة تلك اللقطة الجمعية التي كانت تأخذ بلُبّ المستمعين، وتخلّصهم من ضيق فردانية المتعة وإدراك الجمال إلى رحابة المشاركة في غمرة جمالية تخيلية أخّاذة، تدفع السامع إلى إرسال نظرات خاطفة إلى الحضور والحكاية؛ ليتوثق من هول أثر الكلمة على غيره؛ فيطمئن بأنه ليس وحده المسحور، ثمّ يعود مستسلما للمغنطة العالية التي تجذبه في صوت الحكّاء وأدائه الفريد. هنا، أجدني أرى نفوسا توهب لذة وجودية تنحر العُزلة، وتُقصي الوحدة. صدّقني، لا يوجد معزول أو منفي في مثل هذه اللوحة، لا يوجد وحيد يستجدي أُنسا، ولا يوجد سميرٌ بلا رفيق. ألا ترى معي هذه الفُرْجة أيها الحكّاء في مجلس الفُرْجة؟ أليست التأمّلية الفردية التي تنادي بها حياتنا السريعة -اليوم- أسيرة الألواح الإلكترونية، وسجينة التواصلية الشبكية الافتراضية هي صانعة لجمال بارد صلب لا حياة فيه، نسينا فيه لون العيون ولغتها؟ أفكّر كثيرا في طريقة -ربما لم يبُح بها سِفر "ألف ليلة وليلة" - أستطيع فيها أن أحكي دون أن يقف بيني وبين عيون المستمع جهاز لوحي لئيم، لا يتوقف عن إرسال ألوانه السارقة. قل لي أيها الحكّاء، هل لشهرزاد خبيئة حكائية يمكن أن نخطفها لنقنع عقولنا البشرية من جديد بحقيقة وجودنا، وهل كان شهريار ينظر في عيون شهرزاد عندما تحكي؟ ألم يعبث بعيدا عنها ويشرد بنظره حتى نسي وقت القَصاص؟ هل سِحر الحكاية كان سبب الشرود والنسيان، أم كان لشهريار هو الآخر كهفه الذي يدخل إليه ولا يعرف الخروج منه؟ فنسي مسرورَ وسيفه، ونسي حتى ماذا كانت تقول شهرزاد، مما أغراها بالقفز من حكاية إلى أخرى. لا تقل لي: "كان هنالك لوح زجاجي ينقل له ألوان مقابر النجوم المقضية، ويضئ ظلمة ليله بغبار نورها، ويأتيه بالذي أغفله عن جُرم الخديعة القديمة، وأوقعه في خديعة أكبر، فنسي!". واِحكِ يا شهريار! د. رانية العرضاوي