يسود في الوسط الأدبي، اعتقاد مفاده أن الظاهرة الأدبية عند العرب، في الفترة الأولى من نشوئها، تقتصر على الشِعر، أو على الأقل أن الشِعر هو أهمّ مظهر من مظاهرها. ويجد هذا الاعتقاد تجسيداً له، في ذلك الاهتمام الكبير الذي يُعطى للشِعر على مُختلف المستويات. وهو اهتمام يكاد يطغى على العناية بالمظاهر الأدبية الأخرى التي نزعم أنها كانت لا تقلّ عنه أهميّة ووفرة. والواقع أن قراءة مُتأنّية في التاريخ الأدبي عند العرب، تتيح القول: أن أنواعاً أخرى من الأدب كانت لها أهميّة الشِعر. ونذكر من هذه الأنواع: الخطابة، والحديث الأدبي، أو ما سُمّي بحديث السّمر، ويليهما في الأهميّة: المثَل والحِكمة والرسائل. ويستطيع المُطّلع على تاريخ الأدب العربي أن يقول: أن الخطابة والحديث الأدبي كانا نوعين أدبيّين عرفهما النثر العربي في العصرين: الجاهلي، وصدر الإسلام. فتورد كتُب تاريخ الأدب نصوصاً تتحدّث عن وفرة النثر عند العرب في فترة مُبكّرة من تاريخهم الأدبي، نُثبتُ هنا ما ذكره ابن رشيق في كتابه «العمدة»، فيقول: «وما تكلّمتْ به العرب من جيّد المنثور أكثر ممّا تكلّمتْ به من جيّد الموزون. فلم يُحفظ من المنثور عُشره، ولا ضاع من الموزون عُشره». وقال أبو عمرو بن العلاء: «كان الشاعر في الجاهلية يُقدّم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشِعر الذي يُقيّد عليهم مآثرهم، ويُفخّم شأنهم، ويُهوّل على عدوّهم ومن غزاهم. فلما كثُر الشِعر والشُعراء، واتّخذوا الشِعر مكسبة، ورحلوا إلى السّوقة وتعرّضوا إلى أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر». ونجد في كُتب تاريخ الأدب نصوصاً كثيرة تؤكّد ضرورة إجادة الخطبة، وصعوبة ذلك، وتهيّب التّصدي للخطابة، فيقول عبيدالله بن زياد: «نِعمَ الشيء الإمارة، لولا قعقعة البريد (خيل البريد)، والتشزّن (التّهيؤ) للخُطَب». وقيل لعبد الملك بن مروان: «عجّل عليك الشيب يا أمير المؤمنين»؟ فقال: «وكيف لا يُعجّل عليّ، وأنا أعرض عقلي على الناس في كّل جُمعة مرّة أو مرّتين»! أما النوع الثاني الذي عرفه الأدب العربي في فترة مُبكّرة، وهو النوع الذي تُكثر كُتب تاريخ الأدب من ذِكره، فهو الحديث الأدبي، أو أحاديث السّمر. والحديث الأدبي حديث قصصيّ، يتّخذ عدّة أشكال، هي: الأساطير التي تتناول ظواهر كونيّة، أو ظواهر ووقائع اجتماعية، والحكايات الواقعية، كحكايات الحُبّ والبطولة والسّيَر والغزو والتاريخ، والأخبار الطريفة المتنوّعة. والواقع أن هذا النوع الأدبي كان يلعب، في ذلك المجتمع، الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة، من إذاعة وصحافة وتلفزة وكُتب، في مجتمعنا المعاصر. كما أننا نجد في كُتب تاريخ الأدب، من النصوص، ما يُفيد السعي إلى إجادة الحديث إجادة بلغ من مكانتها درجة أن تُعطي الإنسان قيمته. وهذا ما نفهمه من قول الجاحظ: «إنما الناس أحاديث، فإن استطعتَ أن تكون أحسنهم حديثاً فافعل». ولعلّ هذا ما جعل الشاعر جران العود يقول: فنِلنا سقاطاً من حديث كأنه جنى النّحل، أو أبكار كرمٍ يُقطفُ وقد تمّ جمع بعض هذه الأحاديث القصصيّة في كُتب منها: كتاب «التيجان» لوهب بن المُنبّه، و»كتاب الملوك وأخبار الماضين» لعبيد بن شرية الجرهمي، الذي قال لمعاوية بن أبي سفيان: «يا أمير المؤمنين، لك في هذا الحديث ما يقصر ليلك، وتلذّ به نهارك». وكانت القصص في العصر الجاهلي، تُروى شفهيّاً في نوادي السّمر، لتؤدّي وظيفة المُتعة والفائدة، وملء فراغ القوم، وتسجيل ما حدث، والتمكّن من فهم ما يُحيط بالإنسان من ظواهر، وما يمرّ به من أحداث.