أحد الأصدقاء يروي لي قصة عمله في جهتين مختلفتين، الجهة الأولى تملك نطاق عمل ضخماً ومهام حرجة وخدمات أساسية للمواطنين، ولها جهود استثنائية في تقديم هذه الخدمات، لكنه لا يشعر بتقدير المستفيدين لهذا العمل الضخم والأدوار الكبيرة، بل يواجهونها بإبراز السلبيات وتذكر التقصير، استمر بالعمل في هذه الجهة قرابة أربعة أعوام، لينتقل بعدها للعمل في جهة أخرى أصغر ذات نطاق متوسط الأهمية لا يمس احتياجات الناس بشكل مباشر، لكنها تحظى بتقدير الناس ويشعرون بقيمة أعمالها. قررت الانطلاق معه في رحلة البحث عن سر هذه الظاهرة، بمراجعة للمحتوى الإعلامي للجهتين، لنجد الجهة الأولى وقد تجاوزت أخبار الاتفاقيات والاجتماعات والاستقبالات قرابة 80 % من أخبارها الموجهة للمتابعين خلال عام واحد! بينما تعاملت الجهة الأخرى بذكاء ورشاقة أكبر، موجهة جهود العاملين في التواصل نحو رضا المستفيدين، فلا يكاد مستفيد يتواصل معهم في شكوى أو استفسار دون أن يتلقى منهم اتصالاً يفهم احتياجه ويحل مشكلته بل ويتواصل معه بعد حل مشكلته للتأكد من رضاه، والمحصلة النهائية تحول هذا المستفيد إلى سفير يدافع عن هذه الجهة في أوقات الأزمات. إن هذا السياق المؤسسي في التواصل قد ينطبق أحياناً حتى على المستوى الفردي، فتجد موظفين بمستوى علمي وخبرات متطابقة أحدهما يبذل جهوداً كبيرة لكنه يفتقر لمهارات التواصل، بينما زميله الآخر يعمل بذكاء، فهو ينجز الأهم ويهتم بالأثر ويفهم احتياجات مرؤوسيه ويشارك زملاءه رحلة النجاح، ويقوي روابط التواصل معهم وبالتالي انعكس الأمر إيجاباً عليه وعلى تطوره. وبالعودة للاتصال المؤسسي فإن الواقع يظهر لنا بوضوح أن تواصل جهة ما مع مستفيديها بلغة الآلة وبردود مستنسخة يعتبر نزعًا لجوهر التواصل الإنساني، وهدمًا صريحاً لإحدى ركائز عملية الاتصال الأساسية وهي ركيزة «المرسل» لأن الوسيلة نفسها أصبحت هي المرسل، وبالتالي أصبحت عملية التواصل مشوّهة في مضمونها، مربكة للمتلقي، ولعل هذا يفسر تحوّل الشركات العالمية للعمل على «أنسنة التواصل»، فالأصل أن يتواصلوا بشكل شخصي مع العميل لفهم احتياجاته، وإذا لم يتيسر التواصل المباشر، كان التواصل بالبريد الإلكتروني أو الوسائل الأخرى بصيغة شخصية ومختومة باسم الموظف الذي يباشر تقديم الخدمة والمساعدة للعميل. أكاد أزعم أن استيعاب الجهة لرحلة المستفيد وفهم احتياجاته والتواصل الإيجابي معه هي المعيار الأقوى لنجاح المنظمات، فالخدمة ذاتها قد تقدم من أكثر من جهة، لكن الأثر الإيجابي الراسخ لدى المستفيد لن يأتي إلى من خلال نسخ ولصق عبارة «شكراً لتواصلك معنا» فحسب، بل من خلال تواصل إنساني حقيقي هدفه تحسين تجربة المستفيد وفهم احتياجاته وحل المشكلات التي تواجهه.