نازلة دار الأكابر رواية تاريخية للروائية التونسية أميرة غنيم، التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي «الجائزة العالمية للرواية العربية 2022»، تلتقط منعرجات مهمة من تاريخ تونس الماضي والمعاصر، والحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في تونس في الثلاثينات من القرن الماضي، حيث ترصد كثيراً من المحطات والتحولات في ذلك التاريخ، خصوصاً قضية المرأة من خلال تناولها لشخصية المفكر الإصلاحي الطاهر حداد، الذي مثل حضوره ضمن النسيج التخيلي للرواية، رمزية تعيد الاعتبار لشخصيات وطنية مرموقة من التاريخ العربي، تعرضت بسبب مواقفها الفكرية إلى القهر الاجتماعي، ودفعت ضريبة دفاعها عن التحرر في سياق أيديولوجي يقدس العادات والتقاليد، عبر تخيّل قصة حبّ جمعته مع فتاة من إحدى الأسر التونسية المرموقة، آلت للفشل. معرجة في الأثناء على أهم ما عاشه الحدّاد من خيبات وانتكاسات غداة صدور مؤلفه المشهور المعنون ب»امرأتنا في الشريعة والمجتمع»، في إشارة إلى الصراع الحاد حينها بين رموز الانفتاح في تونس والعالم العربي من جهة والسلطة الدينية الأصولية ممثلة في مشايخ الزيتونة. كما سنرى فصول نضاله في حزب الدستور من أجل الاستقلال على أثر الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، وفي مواجهة محيي الدين القليبي. كما سنقرأ أطرافاً من نضاله النقابي إلى جوار محمد علي الحامي لحفظ خيرات تونس المستنزفة من قبل فرنسا، «الصالح من يترك في الناس علمًا نافعًا لا خرافات وخزعبلات». النازلة في العامية التونسية هي: الفضيحة، التي تعود إلى حادثة ألقت بظلالها على أسرتين من دار الأكابر خلال النصف الأول من القرن العشرين، عائلة عثمان النيفر، وعائلة علي الرصاع، ولكلّ منهما عقلية ومنهج حياة في فضاء اجتماعي وحضري واحد، مطبوع بتقاليد راسخة، ومميز بسعة العيش وتبني قيم متضاربة بين انغلاق وتفتح، تتكشف تفاصيلها على لسان أبطال الرواية من خلال تقنية الأصوات المتعددة، ومع تصاعد السرد تتبين تفاصيل الحبكة، ويستمر عنصر التشويق على مدار صفحات الرواية. وأحسنت أميرة صُنعاً برسم شجرة أنسابهما في أول الرواية، نظرًا لتعدد الشخصيات والمحكيات والأحداث، واشتباك الأدوار والمرويات. وتبدأ الرواية من دار النيفر ووصول رسالة إلى زوجة ابنهم للازبيدة وسط أرغفة خبز ليتهموها بخيانة ابنهم وبيت الزوجية. تتصاعد تبعات هذه النازلة شيئاً فشيئاً بشقاق عنيف بين محمد المحافظ الغيور على سمعة الأسرة وأخيه الزوج المتفتح محسن، وبين الأب والأم ركنَيْ الدار الكبيرين، وصهرهما علي الرصاع، في قطيعة تدوم سنوات، وكذلك مع زبيدة التي صممت البقاء رغم ما لحقها من أذى في بيت الزوجية. برعت الكاتبة في رواية الأحداث بلسان الشخصيات المختلفة، الأسياد والخادمتين، وأفردت لكل شخصية فصلاً. فمع كل فصل ينتبه القارئ إلى تغير الراوي، والمرويّ له، مثلما تتغير أزمنة الحكايات المختلفة، تتناوب الشخصيات المشاركة في النازلة التي عاشتها «للازبيدة»، أو الحاضرة بعض أطوارها، على رواية ما وقع، كأنما يأخذ الواحد من الرواة مشعل الحكي من يد صاحبه، وهذا التناوب لن تجد فيه تداخلاً أو تكراراً إلا ما يحتاج إليه تنويع زوايا النظر قرباً من الوقائع أو بعداً عنها، وإذا بلغنا الفصل الأخير، تقودنا هند حفيدة للازبيدة إلى دهاليز دار الجدود لتكشف لنا الأسرار. «يشقّ على الناس التفريط في الأقفاص، يحتفظون بها بعد أن تزول الحاجة إليها كأن لهم ثأرًا قديمًا مع الحرية»، مما يلفت الانتباه ولا نستغربه هو كيف يمكن لحادث بسيط أن يؤول بطريقة تؤجج المشاعر والغضب بحيث تدمر حياة أسرة. رواية مميزة، غنية بالأحداث وتقلبات الأفئدة والمشاعر، جاءت بمثابة لوحة يشكل التاريخ إطارها الخشبي المتين، فهي نتاج الإبداع والخيال الروائي من حيث الفكرة وخلق الشخصيات ومسار الأحداث والحبكة والتقنية المستعملة، كما استخدمت مصطلحات وعبارات عامية تونسية لإضفاء روح أصيلة على النص، مع إضافة شرحاً لها في الهوامش، ولكن كثرة استخدامها تستلزم التوقف للرجوع إلى الهوامش، من يسبب انقطاع الاندماج بين القارئ والرواية.