سرّنا ما أولمتموه على مائدة مجلتكم «المجلة الثقافية» في الجزء الأول الذي عنونتم له ب (في تونس: لا غرابة أن يُفلتَ منك الضوء, لا غرابةَ أن يسكنك الشعر) الذي خصصتموه لشعرنا ومقول شعرائنا, وتعال اليوم يا أعرابي نحدثك عن المجال القصصي والسردي التونسي عامة من حيث قضاياه وثيماته وتجاربه الفنية واتجاهاته الفكرية، بواكير قصصنا مخرت عباب البحار «سفينة نوح», في مطلع القرن العشرين, أما اليوم ما أكثر القصص المشرعة على أبواب المرافئ في الخريف يا أعرابي, تجدها مطروحة على الأرصفة, وتلتقطها من بين شفاه البوساء, والموجوعين, وأطباق الصحون الفارغة, حتى الحالمين والعشاق والميسرين يا أعرابي يلاحقون في الليالي المسرجة والموقوتة قصصًا شتى يقطفونها من شفاه العشاق, ومحافظ النقود, والمسافرين, في الفنادق وأجنحة الفراشات, وعلى ملاعق الحلوى المذهبة طيبة المذاق. هل أسرتك الرغبة يا أعرابي لسماع كل هذه القصص؟ إليك أكثر منها إذا, بعدها اسمع هذه الرواية, ثم تلك, سنسمعك روايات تجاوزت الأربع مئة, تثن بين أغلفتها, انزلق, اغرق, واشمخ عباب بحرنا من جديد, حتى سرمداه, سيحين وقت هزعتك, حينها ستكون وصلت للصفحة الأخيرة, فتدثر بغلاف سميك من إحدى الروايات, ولا تقصص رؤياك على أحد, لتدفئك الأرض الخضراء من الزمهرير وتظلك من الحرور. وعند الصباح جر مئزرك يا أعرابي وتذكر أن لكل رواية من رواياتنا طقس خاص له مئزره ومشلحه الخاص, فأنت في أرض ابن خلدون والشابي, توقع كل شيء بأي شيء! أولست في الأرض التي كان اسمها «إفريقية» الضاربة في تاريخ سحيق يعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ, في العصر الحجري القديم؟ حيث سكن الإنسان فيها منطقة «قَفحَة», التي وفد إليها البربر والأمازيغ. أم أنك بحاجة لنذكرك بأنك قادم للأرض التي قدم إليها الفينيقيين سنة 1101ق.م, فوق الأرض التي جلب إليها هؤلاء القوم من العادات والتقاليد والنُظُم, الكثير مما تسمونه اليوم حضارة. سجل إذًا.. هنا وضع أول دستور في التاريخ, وألغي الرق والعبودية. وسجل أنك بين الفاعلين في التاريخ, المنفتحين على الأخر دون انبثاث, ولا سقوط في «المسخ أو النسخ», وأنك هنا عند من أنشأوا مدينة القيروان. لوحت بيمناي ولاحت على ثناياي بسمة فقلت: يا أيها التونسيون من وقدكم يوقد الفن مشاعيله, لضو سناه من المحيط إلى الخليج. وعلى نواصي أطراف أصابعكم العربية, المتشابهة أنكاه مطعوم منتوجكم وأزكاه. لذته, مستطابة, تتشابه تشابه توائم شموع بيضاء, تتمايل أنغام طروبكم على إيقاع فن عروبي متجانس بخطوة لها نفس الأثر والبصمات. طوعًا وحبًا, عمقًا وبعدًا, وإيمانًا بوصلًا. رسالتكم إنما أذكيتم جذوتها الخلاقة من أرض تونسكم الخضراء, لتكن سطورًا من الضوء والنور المجيد تهدونه وتقدمونه على رؤوس الأصابع, والجيد والجوانح, لوجدان وجنان كل الأشقاء في الوطن العربي. فقام القوم مرددين: هذا مصدر فخر واعتزاز نذكره ونثمنه فدونكم لقرائكم محصلة جزئنا الثاني. ثلاثة آلاف من التاريخ الحافل والحضارات كان اسمها «إفريقية» ضاربة في تاريخ سحيق يعود إلى مرحلة ما قبل التاريخ, في العصر الحجري القديم, حيث سكن الإنسان فيها منطقة «قَفحَة» فكوّن الحضارة القفحيّة «التي وفد إليها البربر والأمازيغ. بهذا التقديم استهل أستاذ التاريخ بالجامعة التونسية الدكتور كمال جِرفَال الحديث عن تاريخ تونس عليها مبينًا أن قدوم الفينيقيين إلى هذه المنطقة كان سنة 1101ق.م كان الحدث الأبرز لما جلبه هؤلاء من العادات والتقاليد والنُظُم, وقاموا بوضع أول دستور في التاريخ, وأنشأوا أول الموانئ والقواعد العسكرية وأهمها «قرطاج» وتعني «المدينة الجديدة» التي أنشأها «عليّسة» ومن ثم تعاقبت عليها الحضارات فقدم الرومان الذين تصادموا مع قرطاج حول السيادة على الحوض الغربي المتوسط, في حروب طاحنة سميت «الحروب البونية» انتهت بتخريب قرطاج وإحراقها. لتبدأ عملية البناء الجديد، فكان الازدهار مرة أخرى ورسّخ الرومان فنّهم ومعمارهم وطرائق عبادتهم وزراعتهم. فسميت البلاد «مطمور روما» إذ أصبحت توفر حاجات روما من القمح والحبوب والغذاء. أما ما يتعلق بالازدهار الفكري والأدبي, فيذكر لنا التاريخ في هذا المجال, الفلسفة المسيحية الغربية التي أنشأها القديّس أوغستين . كما أن روائع أبولويس مازالت ماثلة في الفن الرفيع, وما زالت «الفسيفساء» شاهداً على جمال الفن وقوة الخيال والدقة في تمازج الألوان والأشكال. أما الوِندَال», ورثة الإمبراطورية الرومانية وفرع من «الجِرمانيين» فقد غزوا البلاد سعياً إلى الاستقلال عن روما وأملاً في تشييد دولة وبناء حضارة تضم تونس والجزائر ومراكش. لكن البيزنطي ين انتصروا عليهم وحكموا تونس عبر السيطرة على قرطاج سنة 534م. وأضاف: «تسعفنا كتب التاريخ بمعلومات خافية حول هذه الحضارات, كما تسعفنا المعابد والكنائس والمسارح والمعالم التاريخية التي انقرض بعضها فيما ظل البعض الآخر شاهداً على عظمتها وعلى تفاعل السكان الأصليين للبلاد معها, رفضاً أو تجاوباً أوتبنياً أو تطويعاً واستفادة من الدخيل الوافد» القيروان حاضنة المعارف والفنون ثم يستدرك محاورنا بأنه من الصعب على المؤرخ الإلمام بهذا التعاقب لكنه يلخص فيشير إلى أهمية الحملة الإسلامية الأولى 661م, «حملة العبادلة السبعة» بقيادة عبدالله بن عمر بن الخطاب, تلتها حملات أخرى بقيادة عقبة بن نافع الفهري وحسان بن النعمان وغيرهم.. فكان تأسيس مدينة القيروان لتكون مركزاً للثقافة الإسلامية ومحضناً للمعارف الدينية والأدبية وسائر الفنون. فأصبحت الأرض التونسية ميداناً فسيحاً للإبداع في كل المجالات بتداول الدول بدءً بالدولة الأغلبية وعاصمتها القيروان مروراً بالدولة الفاطمية وعاصمتها المهدية وبالدولة الصنهاجية والدولة الموحَّديَّة والدولة الحفصيَّة وعاصمتها «تونس», كذلك لا ننسى تأُثير الحقبة الأسبانية بموسيقاها وفنونها وأصناف أطعمتها, كما مثل دخول العثمانيين تونس لنجدة «السلطان الحفصي» منعرجاً مهماً, وبذلك تحولت تونس إلى «إتالة عثمانية» كما ازدهرت التجارة والفلاحة وألغي الرق والعبودية وأنشأت المدارس العصرية ومرافق الجيش ومدارس تعليم اللغات. وأصبحت تونس ملكية دستورية وأشتهر في هذه الفترة المصلح التونسي الوزير خير الدين باشا الذي مازال مبعث فخر للتونسيين على مر الحقب والأجيال وبعد تعاقب الدولة «المرادية والدولة الحسينية» مثّل الاستعمار الفرنسي للبلاد حدثا ً فارقا ً في تاريخها بما جلبه الفرنسيون في أنماط عيش وطرائف حياة وما ذكروه من عادات وتقاليد في كل المجالات إضافة إلى ما لاقوه في مقاومة ونضال ساهم في مسيرته كل أبناء تونس ذوداً عن وطنهم ونصرة لدينهم وحفاظاً على هويتهم العربية الإسلامية بالخصوص بقيادة نخبة متنورة مثقفة نذكر منها محمد علي الحامّي والحبيب بورقيبة والطاهر صفر وعبدالعزيز الثعالبي وآخرون كثيرون من أبناء الحركة الوطنية الذين انتهت بالتحرر من الاستعمار وبناء دولة الاستقلال الدولة الحديثة التي أعطت للمرأة حقوقها ونشرت التعليم والمؤسسات الصحية وغيرها من متطلبات العمران في مفهومة الحديث. مؤكدًا على أنه ما زال الشعب التونسي مزيجا ً ثريا ً ولوداً من رحيق تلك الحضارات, وما زال فاعلا ً في التاريخ منفتحا ً على الأخر دون انبثاث ولا سقوط في « المسخ أو النسخ « محافظا ً على هويته العربية الإسلامية وثوابته دون تعصب أو مغالاة, يرنو إلى أن يكون مساهما ً مشاركا ً في بناء الإنسانية بندية واقتدار يتعامل مع المستجدات ويتفاعل معها ويسعى إلى التجدد البناء ضمن مدارات تتقاطع وتتنافذ المدار العربي الإسلامي والمدار الإفريقي والمدار المتوسطي ثم الغربي, وهي مدارات متحركة تُكوّن ما تسمية النخب التونسية «الكوّنيّة», بمعناها الرصين وبمقومها الواعي وبانتصارها للإنسان عامة. رُموز الثّقافة والإبداع و»أيقونات الفنّ والفكر» تونس الخضراء أشبه بمنجم نفائس للفكر والعلوم المتنوعة على مدى تاريخها الحضاري, رعت أرضها رجالًا كان لهم بصماتهم الخاصة في تاريخ البشرية, يكفي الإشارة لابن خلدون أشهر أساطين العلماء والمفكرين الذين أنجبتهم الأرض التّونسيّة. أستاذ الأدب والشعر ومناهج النقد والأدب المقارن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة بسوسة الدكتور حاتم بن التّهامي الفَطْناسي أشار إلى أن أرض تونس رعت على مَدَى تاريخها وحضاراتها وحِقَبِهَا رُموزًا, من مختلفي الاختصاصات كابن رشيق القيرواني وابن الجزّار (الطّبيب) وأبي القاسم الشّابي الشاعر المجدّد المرموق، ومحمّد الحليوى وعبد السلام المسدّي وحمّادي صمّود والمنصف الوهايبي وهشام جعيط ومحمد القاضي وآخرون في مختلف ميادين الإبداع والعلم والفكّر. وأكد «الفَطْناسي»: أن العلاّمةُ عبد الرّحمن بن خلدون بعد أيقُونةُ الفكر التونسيّ بل المَغَاربيّ بل العالميّ، إذ تُعْتَبَرُ بُحوثُهُ ومُؤلفاته (مقدّمة بن خلدون وكتاب العبر وغيرها) فُتوحات غاية في الدقّة وحَصَانة الرّأي, في قراءة آليّات انْبناء الحضارات وتَدَاوُلها, وأسباب ازدهارها وأسباب سقوط الدّول وانهيارها، ممّا بَوَّأَهُ منزلة مرموقةً في (علم الاجتماع) حتّى عَدَّهُ الدّارسون، مشرقا ومغربًا، من أساطين العُلماء في هذا الحقل. في الفضاء القصصي التونسي وحول الحراك الإبداعي الذي ماز الحركة القصصية التونسية أكد البرفيسور المتخصص في الأدب العربي الناقد الدكتور صالح رمضان: أن المجال القصصي والسردي التونسي عامة يتميّز بالتنوّع من حيث القضايا والثيمات والتجارب الفنية والاتجاهات الفكرية، فمنذ مطلع القرن العشرين ظهرت بواكير القصة القصيرة مع نصوص من قبيل «سفينة نوح» لصالح سويسي أو «زوجة أحمد شروده» لمحمد البشروش، و»حوار في الظلام» لمحمد العريبي، لكن تجربة علي الدوعاجي في كتابة القصة القصيرة في الأربعينات كانت ذات دور حاسم في تجذير النزعة الواقعية الساخرة السوداء وخاصة في مجموعته «سهرت منه الليالي»، ففي هذا النوع من القصص ذي المنزع الاجتماعي فسح الكاتب المجال للشخصية المهمّشة كي تعبّر عن همومها بلغتها، وهي نماذج على غاية من النضج الفني من حيث مقومات الحكاية التي تقتضي الاقتضاب وحسن توظيف الأحداث والوصف وإحكام الربط بين البداية والنهاية، وبوجه أخص في النهايات التي تتسّم بالتكثيف والمفارقة وبخيبة توقّع القارئ. وكان للمجلاّت من قبيل التجديد والفكر والقصص دور بعيد المدى في بلورة ما يشبه المدرسة التونسية في القصة، فكانت مجلة قصص التابعة لنادي القصة بوجه خاص تقيم حلقات قراءة ومناقشة تسهم في توجيه المبدعين وفي مساعدتهم على ترسيخ تجاربهم في الكتابة بما يشبه أيامنا هذه الورشات التدريبية في الأندية الأدبية. وبين «رمضان» أن من أبرز أعلام هذا الجيل في القصة: هند عزوز بمجموعتها في «الدرب الطويل» وحسن نصر بمجموعته «ليالي المطر» التي تنتمي إلى الاتجاه الواقعي الاجتماعي، والطاهر قيقة بمجموعته «نسور وضفادع» والتابعي لخضر بمجموعاته «وشْم على ذراع مقطوعة، وبقية كلام، ومدينة الأسرار» وغيرهم. لافتًا إلى أنه لا يمكن أن نختم هذه الملحوظات دون أن نشير أولا إلى بعض المجموعات المهمة التي صدرت في السبعينات مثل «أعمدة من دخان والصمت» لنافلة ذهب، ودون أن نلحظ ثانياً أن القصة القصيرة تسعى رغم منافسة القصة القصيرة جدا إلى استكشاف مسالك التجريب ودهاليز الممكنات الإنشائية شأنها في ذلك شأن الرواية، ونذكر في هذا السياق مجموعة «جلّ ما تحتاجه زهرة قمرية» لمحمد فطومي، غير أن هذا الجنس القصصي لم يفقد صلته بالمرجع لاجتماعي وبالتفاعل مع الواقع على غرار ما نجد في مجموعات إبراهيم الدرغوثي «كالنخل يموت واقفاً» أو مجموعة «لماذا تموت العصافير» لريم العيساوي، والناصر التوميفي مجموعته «حدث ذات ليلة» وهذه المجموعات ليست سوى نماذج تمثل القصة القصيرة في العقود الأخيرة ولا تستوفيها. أدب الرحلات والمذكرات وإذا كان للطاهر قيقة دور في التأسيس لفنّ الرحلة برؤية حديثة في كتابه الصين الحديثة فقد أسهم أبو القاسم الشابي منذ العشرينات في تطوير أدب المذكرات فكان له ولمحمود بيرم التونسي بمذكرات المنفى دور في تأصيل السرد الذاتي في الكتابة القصصية التونسية. وكان للشابي كذلك ولبعض معاصريه من الأدباء مثل محمد الحليوي والبشروش مرسلات ذات صبغة سردية، زوّدتنا هذه المراسلات بمعطيات هامة حول الحال الشعرية للشابي والسياقات النفسية والاجتماعية التي نظم فيها قصائده. وإذا كان السدّ لمحمود المسعدي لونا من ألوان المسرح الذهني فإن كتابه حدّث أبو هريرة قال يعدّ من بواكير تجربة توظيف التراث في الكتابة السردية العابرة للأجناس،فقد اختار الكاتب شكل الخبر الأدبي كما ألف فيه الجاحظ والأصفهاني والتنوخي وغيرهم من عظماء السرود العربية القديمة ، ووظفه للكتابة في موضوعات حديثة هي أقرب إلى موضوعات الأدب الذهني. الرواية التونسية انفتحت على مختلف المقومات الإنشائية وحول التجربة الروائية في تونس قال «رمضان» إنه لا يمكن أن نخوض في تقديمها في هذا المجال الضيق نظرا إلى اتساع التجربة التونسية في هذا الجنس المتعددة فروعه وأشكاله وموضوعاته، ونكتفي بأن نحيل إلى الجزء الثالث من الفهرس الببليوغرافي للرواية التونسية والليبية والموريتانية لشريف بموسى، مؤكدًا على أن الكتابة الروائية التونسية قد مرت بالأطوار الكبرى التي مرت بها الرواية في عامة الأقطار العربية من الواقعية ذات القيمة المرجعية أو التسجيلية إلى الواقعية الاجتماعية فالرواية التاريخية، فالواقعية الجديدة والرواية التجربيية بمختلف اتجاهاتها، كما انفتحت على مختلف المقومات الإنشائية التي غذّت التجريب الروائي, سواء منها ما اتصل بتوظيف التراث والعجيب أو بمجاوزة الأشكال التقليدية في كتابة الرواية إلى أشكال أكثر مجاوزة لمنطقية السرد التقليدي في كافة مستوياته، وأشدّ اهتماما بالتفاعل بين الأصوات وبالمغامرة التي تبحث عن إدهاش القارئ وتنشيط كفاياته القرائية بالخرق المستمر للمستقّر في الأذهان والأذواق والعوالم المتخيّلة. لا يزال عدد الروايات التونسية قليل واستزادة أكثر حول الحركة الروائية التي شكلت هي الأخرى أغنى محاصيل في المنتج الإبداعي التونسي المزاحم لحديقة الشعر والقصة في أرض الخضراء إذ نبغت أسماء وعناوين لافته استوقفت الحركة النقدية لمتابعتها ودراستها. أكد أستاذ الأدب والشعر ومناهج النقد والأدب المقارن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة بسوسة الدكتور «حاتم بن التّهامي الفَطْناسي»: إنه على الرغم من مرور أكثر من قرن على ظهور أول رواية تونسية «الهيفاء وسراج الليل « لصالح السويسي القيرواني التي نشرت تباعاً بمجلة «خير الدين» سنة 1906م, فإن العدد الجملي للروايات التونسية قد تجاوز اليوم الأربعمائة رواية. وهو عدد قليل نسبيا إذا علمنا أن الروائي الفرنسي بلزاك وحده، مثلاً، ألف في القرن التاسع عشر أكثر من مائة رواية. وبيّن أن ضعف حضور الرواية في الدورة الثقافية ليس كميا فحسب، بل من جهة العناية النقدية أيضاً, وذلك أن ثلاثة روائيين فقط استقطبوا اهتمام النقاد هم محمود المسعدي (صدر في شأنه قرابة الثلاثين كتاباً) والبشير خريف بأطروحة مرحلة ثالثة وعدة ندوات صدرت إحداها في كتاب, وإبراهيم الدرغوثي والذي تم تناول أعماله الروائية في خمسة كتب فردية وجماعية. مع الإشارة إلى أن الروائي بخلاف الشاعر أو الناقد أو الكاتب المسرحي لا وجود له خارج عملية القراءة وذلك لاستحالة وقوفه أمام الجمهور لقراءة رواياته. وقال: إن هذه الهشاشة لوضع الرواية التونسية يعود لطول فترة المخاض التي استغرقت قرابة نصف قرن من سنة 1906م, تاريخ صدور الرواية إلى الاستقلال (تاريخ ظهور أول رواية في كتاب وهي بعنوان «ومن الضحايا « لمحمد العروسي المطوي. فنتج عن ذلك أن لاح لنا مرحلتان متباينتان وهي مرحلة صدور الروايات متسلسلة في الصحف والمجلات. ومرحلة صدور الروايات في كتب مستقلة سنة 1956م. أما أهم المراحل للرواية التونسية فيمكن القول إنها «مرحلة البدايات» في عهد الاحتلال, وبعدها جاءت «مرحلة الترجمة» والاقتباس والتدرب على الفن الروائي, بعد أن اكتشف التونسيون كغيرهم من العرب الرواية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, وبداية القرن العشرين بالاطلاع على بعض الروايات الغربية. فأقبلوا على ترجمة عينات منها وإن كانت قليلة للغاية. وأستدك « الفَطْناسي»: لكن الرواية في تونس وهي تتشكل خلقت تقليدا جديدا لدى القارئ الذي كان محكوما بالأشكال الأدبية التقليدية المورثة من شعر وقصة ومقالة وملحمة, فأقبل المتلقي على المخيلة الأسطورية المتوارثة فكان من الضروري أن تحدد سياقات تشكل أفق القراءة الجمالية لتكتمل العلاقة بين سلطة الكتابة وسلطة القراءة ليحدث الكمال في الهوية ليظل المتلقي قارئا يدور فلكه بين القديم والحديث وبين الأصالة والمعاصرة. في الثمانينات ظهرت المرأة كما صدرت أول رواية تونسية نسائية في عصر الثمانينات للروائية زكية عبد القادر بعنوان (آمنة) عن منشورات قلم، تونس 1983م وفقاً لبيبلوغرافيا (الرواية النسائية المغاربية 1954-2002م ) وكان نصيب تونس ست عشرة رواية هي رواية (آمنة) زكية عبد القادر 1983م, ورواية (مراتيج) عروسية النالوتي 1985م, وغيرهن. مؤكدًا على أن الرواية التونسية النسائية شهدت تطوراً في تقنيات السرد وأشكاله وخلق المشاهد والانطباعات في تقنيات الوصف وربطه بالشخصيات والحالات النفسية والتوغل في الوصف عبر الزمن الممتد والانتقال بين صيغة المشاهد وتوظيف تقنيات علم النفس والتحليل النفسي وإدخال تقنيات الإعلام المرئي والمسموع في بنية الرواية وفي الأساليب الفنية المختلفة التي نقلت الرواية من التقسيم التقليدي القديم من بداية وعقدة ونهاية إلي مستويات متعددة للحدث زمانياً ومكانياً ونهايات مفتوحة لخلق أجواء غامضة قائمة على التشفير والإزاحة. الحراك الناعم في دوائر الوجدانيات وعن دور المرأة في تونس أوضحت الكاتبة والإعلامية «الثريا رمضان» أن المرأة التونسية عرفت كيف تفتكّ مكانها داخل المجتمع التونسي على مدى قرون من الزمن، لتبرز في صورة المرأة القوية الكادحة والمناضلة من أجل قيمتها وذاتها وكينونتها. مبينة أن عليسة أمّ قرطاج والقائدة البربرية ديهيا من أبرز الشخصيات النسائية اللواتي استطعن أن يحفرن أسماءهن في التاريخ وقالت «رمضان»: إذا اعتبرنا أن المرأة في حالاتها الإبداعية تستعيد طبعها الناعم ورهافة الإحساس، فإنه يمكن الوصف بأن هؤلاء الشواعر من النساء اللواتي بأنهن يعشن في دوائر الوجدانيات بشكل أو بآخر, فأثرين المدوّنة الشعرية التونسية بما جادت به قرائحهنّ وما نشرن من مجاميع ترجمت بعضها وتحصّلت بعضها على جوائز محلية ودولية. هذا «الحراك الناعم» إن صحّت تسميته، بدأ مع كثيرات، لعل أبرزهن في التاريخ الحديث شاعرة الخمسينات «زبيدة بشير» التي كانت أول امرأة تنشر مجموعة شعرية في تلك الفترة وكان عنوانها «حنين»، بالرغم من كونها ظهرت في فترة كانت الهيمنة فيها للشعراء الكلاسيكيين الرجال, وعلى الرغم من أنّها ولدت في فترة الثلاثينات إذ كان المجتمع في الكثير من المناطق يحرم المرأة من الخروج من البيت والتوجه للمدارس، إلا أنها أظهرت عن إرادة قوية في تخطّي تلك الصعاب، واستطاعت بعد أن تكفّل والدها في صغرها بتعليمها القراءة والكتابة أن تثقف نفسها بنفسها تثقيفا ذاتيا لتبرز فيما بعد كأهمّ رائدات الشعر في تونس. فأسّس مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة «الكريديف» بالتعاون مع النادي الثقافي الطاهر الحداد سنة 1995م, جائزة سنوية باسم الشاعرة زبيدة بشير يسندها للكاتبات والباحثات المتميزات توزع في اليوم العالمي للمرأة 8 مارس - آذار. وأضافت: ثم برزت في فترة الستينات فضيلة الشابي التي عملت مع زمرة من الشعراء الشباب على التجديد في الشعر من خلال التخلي كلياً أو جزئياً عن الأوزان الخليلية في حركة بدأت في «مجلة الفكر» تحت مسمّى الشعر غير العمودي والحرّ سنة 1969 لتذهب أكثر من ذلك نحو استخدام اللهجة العامية في القصائد. غير أن فضيلة الشابي خلافا لرفقائها في الحركة التجديدية ومرحلة الغليان التي عرفتها الحركة الشعرية في تلك الفترة، تمسّكت باللغة العربية الفصحى، واهتمت بالوجدان وقضايا الإنسان أمام جنوح الأغلبية إلى المواضيع التي تعبّر مباشرة عن المهمّشين. لتنفتح شيئاً فشيئاً على مواضيع أعمق فكرياً ووجدانياً وتنشغل بمعاناة الإنسان. ولا بد هنا من التذكير بأنها من أغزر الشواعر التونسيات إنتاجاً، إذ نشرت 25 مجموعة شعرية مكنتها من حصد عدد من الجوائز الوطنية والعالمية وخاصة منها الإيطالية التي ترجمت إليها. واختارت مدينة أربيناس وهي مدينة (سيسيرون الخطيب الإيطالي الشهير) قصيدة لفضيلة الشابي «معلّقة» نقشت على المرمر في ساحة من ساحاتها مكتوبة بالعربية ومترجمة للإيطالية. وبيّنت أن هذا الحراك الناعم في فعله الشعري كان قاسياً في التحدي في زمن شحّ فيه النشر للشعر بالذات، وغطّت الأسماء الرجالية على النساء. أما في فترة الثمانينات والتسعينات فقد واصلت المرأة التونسية المضي قدمًا في ميادين الإبداع واستعادت بعض الأسماء النسائية ألقها من جديد كزبيدة بشير وجميلة الماجري، ثم ظهرت على الساحة أسماء جديدة يمكن تصنيفها ضمن شعراء التسعينات، مثل فاطمة بن محمود وآمال موسى وفوزية العلوي وغيرهنّ كثيرات استطعن أن يثبتن أن المرأة رغم نعومة حروف الشعر إلا أنها أثبتت أنها قادرة على افتكاك مكانها في الساحة الثقافية التونسية وتركيز أقدامهن من خلال ما نشرنه من مجاميع تنوّعت من حيث الأسلوب الشعري والفكر العميق الذي غلبت عليه الذات الشعرية الحائرة والقلقة. فكر المرأة التونسية جريء وبعد ظهور الشبكات الاجتماعية على الإنترنت باتت عملية الظهور على الساحة لا تحتاج إلا «لكبسة زر» فالوسائل التكنولوجية فتحت المجال أمام العديد من الأسماء سواء التي كانت مغمورة منها أو الجديدة لإيصال إنتاجها بكل سهولة وسرعة إلى عدد هائل من القراء. كما تغيّرت المعايير الشعرية وتطورت, فتكثفت الكلمة واختزلت المعاني وزادت الجرأة في تناول المفاهيم الوجدانية للخروج إلى مفهوم الجسد عند المرأة وقيمته الروحية والمادية لا كمجرد إشباع لرغبات الرجل بل كشكل من أشكال التمرد في الحالات الوجدانية، وهكذا برز جيل آخر من الشواعر اللواتي لم يعد كفاحهنّ للبروز بل لإنشاء فكر جريء لا يعترف بالخطوط الحمراء في القصيدة والهالة التي بقيت ملتصقة لعقود طويلة بجسد المرأة.