الانقلاب الذي قاده قائد الحرس الرئاسي الجنرال عبدالرحمن تشياني في 26 يوليو الماضي قد يكون من أغرب الانقلابات العسكرية، فالرجل الذي كان يتولى مسؤولية حماية الرئيس محمد بازموم انقلب عليه بزعم "حماية الوطن وتجنب زواله الحتمي بسبب انعدام الأمن وسوء الإدارة"، بينما قالت تقارير إخبارية إن الرئيس كان يعتزم إقالته من منصبه، لذلك فإن الحارس "تعشّى بالرئيس قبل أن يتغدّى به". والغريب في الأمر أن رئيس الحرس الرئاسي حظي بدعم الجنرالات الآخر ينفي جيش هذا البلد الإفريقي الفقير، والغريب أكثر هو أن الانقلابيين لم يقبضوا على الرئيس المخلوع بل وضعوه قيد الإقامة الجبرية وسمحوا له بمواصلة التواصل مع الخارج. وما يزيد الأمر غرابة هو أن الانقلابيين ناطحوا السيد الاستعماري السابق فألغوا الاتفاقيات الأمنية مع فرنسا، كما تحدّوا المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا -الإيكواس- التي أعطتهم مهلة لإعادة الرئيس المعزول والمنتخب ديمقراطيًا إلى السلطة وإلا فإن المجموعة ستتدخل عسكريًا. والمحيّر في الأمر هو من أين جاءت الشجاعة لهؤلاء الانقلابيين حتى يرموا قفّاز التحدي في وجه فرنسا ومجموعة الإيكواس ويغلقوا المجال الجوي ويهددوا بمقاومة "المعتدين"؟ خاصة إذا ما علمنا أن تعداد جيش النيجر لا يتعدى 13 ألف جندي ويفتقر إلى كل المتطلبات اللازمة للدخول في مواجهة عسكرية مع فرنسا وبعض الجيران الأفارقة. وفي الحقيقة أن هؤلاء العسكر أحدثوا حالة من الإرباك في صفوف معارضيهم الذين يحتارون حتى الآن في كيفية التعامل معهم. المعطيات على الأرض تشير إلى أن فرنسا وحدها تستطيع حسم الأمر والقضاء على الانقلابيين بسهولة وإعادة المسار الديمقراطي إلى البلاد وهو المسار المصمم بحسب المعايير الغربية لدول العالم الثالث طالما خدم مصالح هذه الدول التي تدّعي بأنها موجودة في القارة السوداء لمحاربة المنظمات الإرهابية مثل بوكو حرام ونصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم "داعش" الإفريقي مع أنها لم تفعل الكثير للقضاء على هذه المجموعات التي أساءت للإسلام والمسلمين التي يقال بأنها صناعة غربية في الأساس للإبقاء على حالة عدم الاستقرار وتوفير الذرائع لبناء قواعد عسكرية في كثير من الدول الإفريقية لمواجهة النفوذ الروسي والصيني المتزايدين. لكن فرنسا ستفكر مليًا قبل الإقدام على هذه الخطوة لأن ذلك سوف يؤجج مشاعر العداء ضدها في القارة الإفريقية. لقد مر الموعد النهائي الذي حددته مجموعة الإيكواس ولم تتحرك جيوشها في الوقت الذي دعت فيه إيطاليا إلى تمديد مهلة الإنذار، بينما ظهر الخلاف جليًا بين أعضاء المجموعة حيث أعلنت مالي وبوركينا فاسو المجاورتان بأن أي تدخل عسكري في النيجر سيكون اعتداء عليهما، بينما رفض مجلس الشيوخ النيجيري التدخل العسكري وأعطى الفرصة للحل السياسي ما أفسح المجال للاتحاد افريقي للتوسط في هذه الأزمة. في الوقت ذاته ارتفع صوت الجزائر الداعي إلى "الحل السلمي والرفض القاطع للتدخل العسكري" خشية أن يتحول التهديد بالتدخل العسكري إلى حرب أهلية داخلية أو إقليمية تنسف استقرار النيجر وإقليم الساحل، ما يزيد من الأعباء الأمنية على القوات المسلحة الجزائرية على طول حدودها الجنوبية عبر ماليوالنيجر وليبيا، بينما التزمت تشاد الحياد خشية من تردي الأوضاع بما يسمح بتدفق اللاجئين إليها ما يضيف مشكلات جديدة لمشكلة اللاجئين المتدفقين من السودان. مع تراجع إمكانية العمل العسكري، أو تأجيله، اختارت فرنسا ودول أوروبية وقف المساعدات للنيجر بينما أوقفت نيجيريا تزويد جارتها بالكهرباء لخلق حالة من الإرباك على أمل تحريض الشعب للثورة على الانقلابيين. لكن يبدو أن هذا الهدف لم يتحقق بعد لأن جماهير غفيرة خرجت إلى الشوارع لدعم الانقلاب والتعبير عن غضبهم ضد فرنسا التي تمثل "الوجه القبيح للكونيالية الجديدة"، كما يقول أحد المحللين السياسيين. من المستفيد ومن المتضرر؟ بكل تأكيد أن الوباء المزمن للانقلابات العسكرية التي ابتليت بها القارة الإفريقية لم تجلب خيرًا وأمنًا لشعوبها بل زادتها تفاقمًا وتدهورًا، ولذلك لا يتوقع أن يكون انقلاب النيجر استثناءً لأن الانقلابيين لم يعلنوا عن رؤيتهم أو برنامجهم السياسي للمستقبل، فهل كان هذا الانقلاب مخططًا له مسبقًا وبسرية ما جعل المخابرات الفرنسية تنتقد الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته لعدم قدرتهم على توقع مثل هذا الانقلاب؟ لا يستبعد بعض المراقبين أن يكون الدافع للانقلاب هو تصفية حسابات إثنية بين الانقلابيين الذين ينتمون إلى قبيلة الهوسا وقبائل أخرى تمثل أغلبية فسيفساء مجتمع النيجر، وبين الرئيس محمد بازوم الذي ينتمي إلى عرب النيجر الذين يمثلون نحو 1 % من مجموع 15 مليونًا، لكن إضفاء الطابع السياسي على الانقلاب أعطاه شعبية أكبر بين الجماهير المسلمة الفقيرة التي رفعت العلم الروسي إلى جانب علم البلاد والتي لا تجد قوت يومها بينما بلادهم تنام على ثروة هائلة من المصادر الطبيعية مثل اليورانيوم والذهب والنفط. في نهاية المطاف، ستكون فرنسا الخاسر الوحيد لأن نفوذها في مستعمراتها السابقة آخذ في الانحسار لأنها لم تتعلم من دروس التاريخ وظلت تتعامل مع الدول الإفريقية بالعقلية الاستعمارية القديمة. أما الرابحون فهم الولاياتالمتحدة التي اكتفت بالدعوة إلى عودة الرئيس المعزول وقد سبق لوزير خارجيتها أنتوني بلينكن أن وصف النيجر ب"الديمقراطية النموذجية"، وروسيا التي وسعت نفوذها في أعقاب استضافة القمة الإفريقية-الروسية الثنية في سان بطرسبورغ الشهر الماضي، والجزائر التي تأمل في بناء خط الصحارى للغاز النيجري للتصدير إلى أوروبا. وبين هؤلاء وهؤلاء يتنافس المرتزقة، مثل مجموعة فاغنر، والتنظيمات الإرهابية على نشر المزيد من الفوضى وعدم الاستقرار. وإذا ما استقام الحال للانقلابيين في النيجر، فسوف يشكلون ثلاثيًا مع النظامين العسكريين في بوركينا فاسو ومالي، وقد ينضم إليهم آخرون، في ما قد يبدو أنه عودة لعصر الثورات على المستعمرين القدامى والجدد وبناء تحالفات مع روسيا في مواجهة الولاياتالمتحدة. لكن هذه الثورات تسير فوق رمال متحركة وسط الفوضى السياسية والتحديات الأمنية والاقتصادية والتغيرات المناخية ولا يمكن أن تنجح إذا لم تقدم حلولاً لشعوبها التي تبحث عن الخلاص من بؤسها بشتى السبل ولو حتى بركوب قوارب الموت. .