كانت المرة الأولى التي أقابله فيها قبل خمسين عاماً وأنا أتخطى عامي الرابع، عمري الصغير كان يتفتح كزهرة في طرف حقل ترقب شمس الصباح كل يوم مع زقزقة العصافير، أسير حاثاً الخطى لألحق بحياة شاسعة لم أتوقعها أبداً خلف تلك الجبال التي تحيط بقريتنا الجنوبية! مضيت خلف أمي قبل مغرب ذلك اليوم تنحدر من بيتنا نحو الوادي مولولةً وعابرة مساريب القرية بين البيوت الحجرية تصطدم أصابع قدمي بحجارتها الصغيرة، تصفق أمي كفا بكف، مفجوعةً بأمرٍ عظيم لا أعرفه وأنا أتبعها، حتى وصلنا حيث الجمع الكبير بجانب البئر! كان صوت النساء النائحات والأطفال المفجوعين مثلي والرجال المتحلقين الواجمين حول البئر يملأ المكان، وهو واقف هناك خلف جثث الغرقى الثلاث يبتسم ابتسامةً ماكرة ويحدق في الجميع قبل أن يحل ظلامٌ وحزن دامس على كل بيوت القرية! كدت أنسى وجهه القبيح وابتسامته الماكرة حين مر الزمن، حتى عاد بعد عشر سنوات يسير خلف خالي وعمي دخلوا علينا في غرفة نومنا ومعيشتنا بعد أن طرقوا الباب بقوة ما زال صداها في قلبي وعقلي حتى اليوم، ولم تكن تحتاج أمي لتفكير كثير حتى تكتشف سبب وجودهم في هذا الوقت المبكر حين سألتهم: أهو زوجها أم ابنها؟ وكان يوماً قاسياً عرفت فيه أني لن أرى أبي بعد ذلك اليوم وإلى الأبد! نفس الابتسامة الماكرة والوجه القبيح لكنه هذه المرة ظل يحدق بي طوال النهار وحين تعبت من البكاء ونمت قرب الظهر كان قد غادر! عرفت بعد أن كبرت أنه لا محالة سيعود ذات يوم، ولكني صممت أن أغيظه مهما كانت قسوة الحدث، ولم أكن أعرف أنه يخطط لأبعد مما توقعت! كانت آخر ساعة من مساء جميل قبل عشرة أيام، قضيته مع اثنين من أخوتي ترافقنا أختي الكبيرة في متنزه مطل على المزارع الخضراء والقرى المتجاورة في مدينة جنوبية جميلة اسمها (تنومة) تودع شمس المغيب الناس والأشجار والطرقات، وخلفنا تطل جبال منعا بشموخ كأنها تحدّق في ضحكاتنا وأحلامنا. التقطنا صوراً رائعة، الصورة الأخيرة منها كنت أبتسم وأضع إكليلاً من الورد على رأسي وبجانبي أخي الحبيب مبتسماً أيضاً. ودّعنا المكان والضحكات والوقت الرائع واليوم الجميل، ميممين نحو مواقف السيارات! وفجأة بدأت أحس بألم شديد في منتصف صدري وتثاقل في خطواتي، ومضيت أجر نفسي نحو السيارة أكتم الأمر عنهم. انحدرنا نحو الطريق العام وأنا أشاركهم تمثيل البهجة بالشيلة المغناة التي لا أستطيع تمييز كلماتها من شدة الألم حتى لا يصيبهم القلق، واستدرت نحو المستوصف الأهلي معللا سبب هذه الاستدارة بالبحث عن صيدلية. نزلت طالباً من أخي الأصغر أن يرافقني وأخبرت البقية أنا سنعود بعد قليل. ما إن وطأت رجلاي غرفة الدكتور حتى تعملق الألم، وأصبت بغثيان شديد وألم قوي في ساعدي الأيسر وأكدت فحوصات الطبيب وتخطيط القلب خطورة الأمر. انطلقنا نحو المستشفى القريب ولم نكد نصل باب الطوارئ بسيارتنا في أقل من 5 دقائق حتى تفاجأت بوجوده واقفاً يبتسم الابتسامة الماكرة نفسها ويحدق في عيني بحقد عظيم وعرفت أني المقصود هذه المرة! تحولت غرفة العناية إلى مضمار للجري وأسماء الأدوية باللغة الإنجليزية يتلوها الطبيب ثم يكررها بقية الفريق الطبي وأنا ممد على السرير أراقب غيوم الكآبة في سطح الغرفة، وجميع الوجوه حولي يبدو عليها الهم والوجوم. منذ تلك اللحظة ظهر لي أنهم يتعاملون مع أمرٍ خطير وعلي أن أستسلم للتعليمات وأتمسك بقناع الأكسجين وأتحمل ألم الإبر التي بدأت تنهمر على جسدي في ساعدي الأيمن والأيسر والطبيب يضرب ساقي بما يشبه المطرقة. أعطوني أربع حبات طلبوا مني قضمها تحت أسناني، ثم نزعوا ملابسي العلوية نحو الأعلى وأوصلوا جسدي بجهاز تخطيط القلب وهمست لي الممرضة الحزينة أن العلاج القادم في ساعدي الأيسر سيكون مؤلماً وحاراً جدا، وسيستمر لمدة خمس دقائق، ثم بعد مرور نصف ساعة ستكون الجرعة الثانية بنفس الألم والحرارة! وجوه أخوتي تنبأ بحزن عظيم وهو هناك يطل بين فينة وأخرى من عند باب غرفة الطوارئ ليحدق بي يكاد الشرر يتطاير من عينيه وابتسامته ولت إلى غير رجعة! لكني لم أكن أثق به وبدأت في ترديد الشهادتين بصوت منخفض حتى لا أزعج أخي الواقف عند رأسي وأجعله يفكر في الأسوء، ثم تبعتها بالاستغفار وأغمضت عيني مستسلماً للأطباء والممرضين ومناقشات أخوتي معهم، مصغياً لكل هذه الجلبة مع صوت أجهزة قياس نبضات القلب والضغط، ثم فرت من عيني دمعة حاولت تداركها ولم أفلح! لاحظها أخي ومسحها بلطف حتى لا يراها أحد، ثم انحنى علي وسألني بجملة مرتبكة خائفة يتصنع السخرية كي يهوّن علي: ما بك! أخبرته باختصار أنه تأثر بسيط، ولم أستطع أن أشرح له أني كنت أفكر بزوجتي وأولادي وكيف سيصلهم الخبر الحزين المفجع إن كانت هذه النهاية! بعد نصف ساعة بشّرنا الطبيب بزوال الخطر، لكن خيول الصدمة التي كانت ترفس الأرض طوال الوقت بحوافرها والتي ركبها الجميع غصباً عنهم قبل نحو ساعة لم يكن لديها الاستعداد لترحل فجأة كما ظهرت فجأة! نهبت سيارة الإسعاف الطريق نحو (أبها) نهباً للدرجة التي شككت أني إن سلمت من جلطة القلب القوية المفاجئة، فربما لا أسلم من حادث مروع لسيارة إسعاف تنطلق كالصاروخ، لا تتوقف لإشارات المرور ولا تكاد تلاحظ المطبات، ورجوت الطبيب المرافق أن يوصي السائق أن يترفق بنا وابتسم وهو يجيبني ويربت على يدي المكبلة: لا تقلق هذا برتوكول إنقاذ حياة! وصلنا المدينة التي أحبها بعد منتصف الليل، لكني هذه المرة في غير شوق للقاء. كان جناح العناية المركزة في المركز الطبي المتطور يوحي بالرفاهية غير أني لم أستطع الاستمتاع بها مع كمية رؤوس المغذيات وأسلاك تخطيط القلب وأجهزة قياس الضغط و الأكسجين المتصلة بي؛ توحي أني أسير مقيدٌ على سريري، أنصت لأصوات الأجهزة وأستعد بعد كل فترة لعلاج جديد أو فحص بالأشعة، وما كان أطولها من ليلة، صار أعظم حلم بالنسبة لي فيها، وفي هذه الحياة أن يسمحوا لي بالتحرك من على هذا السرير وفك قيدي من الأسلاك والأنابيب التي تم توصيلها بجسدي وزيارة دورة المياه! وقد تحقق الحلم العظيم قبل الفجر بقليل، ولكن مع مرافقين يحرسونني! في الرابعة صباحاً بدأوا إجراءاتهم لتجهيزي لغرفة العمليات، وفي الثامنة انطلقوا بي نحوها مواصلا استسلامي لكل من وما يحيط بي، وموجهاً عيني لأسطح الممرات والمصاعد ألاحظ تشكيل الإنارة أحاول إبعاد تفكيري عن نهايات لا تليق بحياة شاسعة بدأتها كزهرة صغيرة تتفتح في طرف حقل! تمت تغطيتي بالكامل على سرير طويل ضيق بعد تجهيزي لعملية القسطرة، لكن هواء بارداً كان يتسلل لكتفي الأيسر المكشوف، وطلبت من أحدى الممرضات تغطيته حتى أشعر بالدفء! سرعان ما بدأ الطبيب عمله بعد أن عرفني بنفسه، وحتى أكسر حدة الجو والخوف والصمت وصوت المقصات والأبر التي يتم تكسيرها استعدادا لغزو قلبي طلبت منه أن لا يسجل في تقريره بعد العملية أي من قصص الحب التي سيكتشفها فيه! تسلل السلك أشعر به في ساعدي الأيمن كسيلٍ هادر في وادٍ ضيق، وكان تركيب الدعامة الأولى متعباً لكنها مرت بسلام، ثم فجأة والطبيب يخبرني أنه سيضطر لتركيب أخرى في شريان آخر سمعت جلبة وصوتاً أجشاً ينادي اسمي واقترب الصوت حتى رأيت وجهه القبيح وابتسامته الماكرة! كان يضغط على صدري بكل ما يملك من قوة وأنا أستفزع بالطبيب وأخبره أني أتألم وأحس بالغثيان وأقول له: تكفى يا دكتور! واثقا أنهم لا يرونه ولا يشعرون بوجوده! قال الدكتور هناك شريان آخر ضيق جدا وسيحتاج إلى دعامة! واصل الوجه الحاقد ضغطه على صدري وكتم أنفاسي والضغط بعنف على ساعدي الأيسر واستفزغت بالطبيب مرة أخرى! بعد نحو خمسين دقيقة من مراقبة شرايين قلبي على الشاشة الكبيرة على يساري وآلة الأشعة تتلوى فوق صدري كحية ماكرة قال الدكتور بلهجة باردة: خلاص خلصنا، الحمد لله على السلامة! في تلك اللحظة لم أكن أبحث عن السلامة ولا الحياة، بل كان تفكيري وأنا مهزومٌ من الألم تماماً أن مرحباً بالموت! عدت من الممرات نفسها أحدق في أنوار المصعد والأسطح وأصغي لصوت عجلة السرير الذي ينتقل من مكان لآخر! رغم أن حلقي كان جافاً جداً وجسمي مرضوض من الألم شعرت براحة وطمأنينة عجيبة، ثم لاحظت ما يشبه الغيمة البيضاء ترافقني يتسلل من بينها نور إضاءة الممرات، وبعد كل عدة أمتار يطل من وسطها وجه لطيف مشرق على شكل بالونة بيضاء معلقة في أعلى السرير خلف رأسي يبتسم لي تكاد تنطق عيناه بمحبتي، يختفي ويظهر، ثم يختفي ويظهر! رافقني حتى دخلت من بوابة جناح العناية المركزة كأني عدت إلى بيتي وأنا أسمع صوت الممرضات وأصوات أجهزة قياس الضغط والأكسجين ونبضات قلوب المرضى الآخرين! انتظر حتى نقلتني (مريم) إلى سريري ثم اقترب مني ومسح على رأسي بلطف وهمس في أذني: إنه يحبك فلا تنسى أن تشكره! استرخيت في سريري ماداً يدي (لمريم) كي تعيد تقييدي بأنابيب المغذيات متألما من القيد الأبيض على معصمي حيث كان مدخل القسطرة، وأغمضت عيني أتخيل مزارع خضراء شاسعة تحت سماء غائمةً تداعب الريح سيقان البرسيم وزهورها البيضاء، تختلط مع أغصان دوار الشمس وزهورها الصفراء، وطفل صغير يجلس حول نبع الماء، يحدق نحو الشمس تكاد تختفي خلف الجبال؛ يتساءل ماذا تخفي خلفها من فرص للحياة بعد ما يظن الإنسان أنه أمر مؤلم يحدث فجأة!