إن لروائع الأدب شباب دائم، أين منه شباب العُمر، أو شباب الربيع، أو شباب الأُمم! ذلكم الشباب الخالد هو شباب الأدب الرفيع، الذي وصفه الشاعر فقال: يهرم الكون وهو غضّ، وتبلى جِدّة الدهر، وهو زاهٍ نظيرُ فالعِلم يتبدّل من حال إلى حال، وكثير ممّا كان يُحسب فيه حقيقة ثابتة لا شكّ فيها في جيلٍ، نقضه الجيل الذي تلاه بحقائق جديدة، وقد ينقض العِلم غداً ما يثبته العُلماء اليوم. في حين إبداعات هوميروس ودانتي وميلتون والمعرّي وشكسبير والمتنبي وغيرهم، من عباقرة الشعراء والأدباء، ليجد فيها إنسان اليوم ما وجده من قبل إنسان الأمس البعيد الغابر من متعة وفتنة ودهشة. إن تقدير الأدب ليس بالبِدعة المُستحدثة في التاريخ، فقد عرف الأقدمون له جلال القدر، ورفعة المنزلة، فكتبت العرب في الجاهلية مختاراتها من روائع الشعر، وعلّقتها على أستار الكعبة، تقديراً لها وتعظيماً. وهل كان الملوك والأمراء يبذلون المال والهِبات على الشُعراء الأفذاذ بسخاء، لولا طمعهم في خلود الذِكر في القصائد البديعة، التي كانت تجري على ألسنة الناس كالأمثال الشاردة؟ يُروى عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أنه قال لبعض أبناء هرِم بن سِنان، ممدوح الشاعر زهير بن أبي سُلمى: "أنشدني بعض مدائح زهير في أبيك"، فأنشده، فقال عُمر: "إنه كان ليُحسِن فيكم القول"، فقال ابن هرِم: "ونحن كُنّا نُجزل له العطاء"، فقال قوله البليغ: "قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم"! وقد كان الخلفاء في الإسلام، كما كان المُلوك والأُمراء في الجاهلية، يوصون الآباء بتثقيف الأبناء بالشِعر والأدب لتسمو أخلاقهم، وترتفي طِباعهم، وقد بلغ من إعجاب أمير المؤمنين عُمر بن الخطّاب "بلامية العرَب" للشنفرى أن قال: "علّموا أولادكم لاميّة العرَب، فإنها تُعلّم مكارم الأخلاق". وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الأدب حلي في الغِنى، كنزٌ عند الحاجة، عون على المروءة، وأُنس في الوِحدة، تعمر به القلوب الواهية، وتنفذ به الأبصار الكليلة، ويُدرك به الطالبون ما يُحاولون". إن منزلة الأدب في النفوس، ومكانته في القلوب، وأثره البعيد في الناس، كما قال ابن الرومي: أرى الشِعر يُحيي الناسَ والمجدَ بالذي تُبقيه أرواحٌ له عطِراتُ وما المجدُ لولا الشِعرُ إلا معاهدٌ وما الناس إلا أعظُمٌ نَخِراتُ فلا غرو إذن أن يخلد الأدب الرفيع على الدهر، ويظلّ غضّ الإهاب، فما الدنيا إلا صحراء لاهبة، واحتُها المُخضلّة هِبات الفنّ السامي، ونتاج العبقرية الخلّاقة. كان الحسن البصري رحمه الله يقول: "الدنيا كُلّها ظُلمة إلا مجالس الأدباء، ومساجلات العلماء، ومُطارحات الشُعراء". فالأدب عُصارة القرائح، وفيه تتجلّى خُلاصة الثقافات، التي تُهيمن على المشاعر، وتستحوذ على العقول والألباب، حتى لكأنها السِحر، بل إنها كذلك، وإن من البيان لسِحرا. وللخلود في الأدب مناطق تختلف سعة وامتداداً، فقد يسري حتى يعمّ العالَم بأجمعه ويصير أدباً عالمياً، وقد يقتصر على أُمّته وشعبه فيكون أدباً قومياً، وحولهما درجات. والسِرّ في هذا إنما يرجع إلى اختلاف موضوعاته؛ فإذا كان متناوَله النفس الإنسانية من حيث هي، لا باعتبار الأجناس والأنواع، فهو جارٍ مع النفس الإنسانية في كلّ مكان، وكذلك إذا كانت وِجهته الكون والطبيعة، والمعاني الكُليّة التي لا تحدّها الأمكنة، ولا تطغى عليها البيئات. ومِن أظهر الأمثلة لذلك أدب المعرّي وابن الرومي والخيّام في الشرق، وشكسبير وروسو وهوجو في الغرب. أما إذا كان موضوعه مصبوغاً بصبغة البيئة وألوان المكان وأغراض الشعوب والأجناس، فهو خالد في حدود من يُصوّرهم ويتحدّث بلسانهم، ومن أمثلته بعض أدب حافظ وشوقي مما يُغذّي الوطنية في مصر، ورديارد كبلينج في إنجلترا، وجميع الآداب القومية، التي يعتزّ بها اليوم كلّ شعب. ولو حاولنا الإجابة على السؤال الذي كثيراً ما يتكرّر عن سرّ بقاء كثير من النصوص الأدبية، وتميّزها عن غيرها من هذا الكم الهائل من الإنتاج البشري في شتّى صنوف الأدب.. ما السر في أن دُور النشر والمطابع والمكتبات حول العالَم، ما تزال تطبع وتنشر وتوزّع أعمالاً خالدة مثل "ألف ليلة وليلة"، و"دون كيشوت"، و"البؤساء"، و"الجريمة والعقاب"؟ في الحقيقة أن ألنٌقّاد اختلفوا حول هذه المسألة، واتّضح أنه لا توجد خلطة سريّة تقود تلك النصوص إلى الخلود، ولكن ربّما كانت بعض الإجابات تشير إلى افتراض وجود ثلاثة عناصر مُهمّة تجمعها الأعمال الأدبية المتميّزة، وهي: الصدق في التجربة، والعُمق في الزاوية التي يُتناول بها الموضوع، والتلقائيّة في التعبير عنها. وتبقى الموهبة الحقيقية هي القول الفصل للعبقريّة حين تأتي الأديب أو الشاعر أو الكاتب من الله سبحانه وتعالى، ثم العمل الدائب لتطوير تلك الموهبة وصقلها، والإلمام بجوانب المعارف الإنسانية في مُجملها، ومعرفة مكوّنات النفس البشرية، وممارسة تجارب الحياة بكلّ مصاعبها، والقراءة من معين الفلسفة والحكمة، والتأثّر بنماذج فذّة، وتبنّي قضيّة تستحق النضال لأجلها بواقعيّة صِرفة.. إذا أراد أديب ما أن يحجز له اسماً في سِجلّ الخالدين. وختاماً، فإن رأي د. علي الوردي حول الموضوع، أوجزه في كتابه "أسطورة الأدب الرفيع" فيقول: "إن الأدب الذي يبقى على مرّ الأيام، لا يعرف عِلم المعاني، أو عِلم البيان، أو عِلم البلاغة. فمصدر روعة الأدب وخلوده، أنه يُلاقي صدىً في نفوس الناس، ويضرب على الأوتار الحسّاسة في قلوبهم. إنه انبثاق من أعماق النفس، والذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب، كما يقول المثَل العربي القديم". ثم يقول: "إن على طُلّاب الأدب أن يفهموا أن الأدب هو كأيّ فنّ من فنون الحياة، يحتاج إلى الموهبة أوّلاً، وإلى الاطّلاع ثانياً، وإلى المُثابرة ثالثاً. هذا هو الطريق الذي سار عليه الأدباء الخالدون". أبو العلاء المعري شاعر وفيلسوف