إذا ما عدنا إلى العصور الإسلامية المبكرة؛ فقد تعارف المسلمون على المجيء إلى الحج في جماعات منظمة ومدعومة بفرق عسكرية لتأمين الحجيج، نظراً للمصاعب الكبيرة والوضع الأمني لجزيرة العرب، ومع ذاك كانت النجاة من مخاطر الحج استثناءً يعد من الكرامات، وكانت أشهر تلك القوافل أو الركائب في الغالب أربعة وهي ركب الحاج المغربي الذي يضم حجاج المغرب وغرب أفريقيا، ويسيرون متحدين أو متفرقين براً في شمال أفريقيا حتى الوصول إلى القاهرة، أو بحراً من المغرب إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة عبر النيل، والركب الثاني وهو الأهم والأكبر على مدار العصور الإسلامية وهو ركب الحاج المصري الذي كان أكثر تنظيماً وأهمية؛ لأنه في الغالب كان منوطاً به حمل كسوة الكعبة المشرفة من مصر إلى مكة عبر طريق عُرف على مر التاريخ باسم "درب الحاج المصري"، وظلت عادة المحمل وكسوة الكعبة تخرج من القاهرة حتى خمسينات القرن العشرين، ومع هذا الركب كان ينضم ركب المغاربة وأهل أفريقيا الغربية. أهالي القرية يخرجون لتوديع الحجاج بالدموع والدعوات الصادقة الركب الثالث هو ركب الشام الذي ينطلق من دمشق إلى الحجاز، وكان ينضم إلى هؤلاء حجاج تركيا والقوقاز والروس والتتار وغيره، ثم الركب الرابع ركب الحاج البغدادي والخراساني القادمون من وسط آسيا وإيران والعراق، وثمة ركب للحجاج الهنود الذي كان يأتي بحراً من الهند وجنوب شرق آسيا ويصل إلى ميناء جدة، وكان الغالب عليهم تجارة البهارات والمنسوجات وغيرها، ومع ذلك ما كانت تنتظم هذه القوافل كل سنوات الحج، إذ بلغت صعوبة الحج وخطورة الطريق أن بعض علماء المغرب وشنقيط كانوا يفتون بإسقاط تلك الفريضة، وحتى زمن متأخر من نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويفصّل الشيخ محمد الشنقيطي هذه الأسباب في قوله إن قيل كيف يسقط شيء جماعي بمفسدة، قلت الحج جماعي الوجوب وأسقطه كثير من العلماء للمخاطرة بالنفوس، حيث أجمع المحققون ممن حج من علماء المغاربة والمصريين أن السفر في هذا الزمان للحج لا يجوز لا للضرورة ولا لغيره، وذلك لما يقع من تضييع الصلوات الخمس، والمخاطرة بالنفس والأموال والفروج. تنفس الصعداء استمرت مصاعب الحج ومخاطر الطريق مع دخول هذه القوافل جزيرة العرب، حتى وهي تمر في حالات استثنائية محدودة في بعض السنوات، حتى تمكن الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- من بسط سيطرته على الجزيرة العربية واكتمال منظومة الأمن التي كانت أحد همومه وأولياته عندما بدأ أهل جزيرة العرب يتنفسون الصعداء ويسافرون للحج روحة وجيئة وهم آمنون على أنفسهم وأهلهم وممتلكاتهم دون أي منغصات، مع بداية توفير الكثير من الخدمات سواء داخل مكةوالمدينة أو على أهم الدروب والجواد المؤدية لها والمتمثلة بمحطات لخدمة الحجاج. ومع التقدم الكبير الذي شهدته المملكة كانت السيارة قد حلّت تدريجياً في تنقلات الحجاج بدلاً من الناقة، وتعد السيارة الشهيرة التي استخدمت في نقل الحجاج بين جدةومكة واستخدمتها الاسكتلندية الليدي آفلين عام 1933م وهي إحدى سيدات الطبقة الأرستقراطية، والتي أسلمت وسمّت نفسها زينب في أداء فريضة الحج، تعد هذه السيارة من أولى السيارات المستخدمة في نقل الحجاج، وذكرت آفلين أنها قطعت المسافة بين جدةومكة في غضون يوم كامل، ومرة أخرى من جدة إلى المدينة في ثلاثة أيام، وأربعة أيام قطعتها من المدينة إلى مكة، وعدت ذلك إنجازاً كبيراً للملك السعودي في تذليل المسافات التي كانت تحتاج إلى 15 يوما. هيئة المخرجين وذكر الباحث والمؤرخ الإنجليزي عبدالله فيلبي أن عملية نقل الحجاج استمرت رسمياً بين مكةوالمدينة وداخل المشاعر معتمداً بشكل كبير على الجمال التي كانت تتبع لهيئة اسمها "هيئة المخرجين"، تتولى مسؤولية إحضار الجمال والجمّالة، وتتبعهم جماعة أخرى تعرف ب"المقومين" يتولى هؤلاء تقدير حمولة الجمل من عفش ومؤن الحجاج وركوبهم وأجرة الجمل إذا كان محملاً، أو يحمل الحاج وملابسه فقط، إذ كان لكل منهما سعر خاص إلاّ أنه أصدر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أمراً سامياً بالمصادقة على نظام تسيير السيارات الذي تأسست شركته -الشركة السعودية الوطنية لسير السيارات بالحجاز- وكان من الطبيعي أن تفكر شركة النقل في أخذ القسم الأكبر من حركة المواصلات، لكن لاحت في الأفق عقبة غير متوقعة، إذ احتج المطوفون على احتكار هذه الشركة لحركة المواصلات ذلك لأنهم اعتادوا تحقيق ربح وافر من جراء تأمين الجمال لنقل الحجاج في الفترة التي كانت الشركات الخاصة تعمل بكل حريتها، وبدؤوا الآن حملة إعلامية نشروها بين الحجاج تؤكد على فائدة التنقل بالجمال وبالتأكيد على شرعيتها من الناحية الدينية، والواقع أن حملتهم حققت نجاحاً ملحوظاً وبدأت قوافل الحجاج بأعداد كبيرة من الجمال تجوب الشوارع بين مكةوجدة الأمر الذي انزعجت منه مؤسسات النقل بالسيارات. لا غنى عنه وأكد عبدالله فيلبي على أن الأمر رُفع إلى الملك عبدالعزيز الذي سبق له أن نزل عند رغبة البعض في التنقل بالجمال بعد أن احتجوا على دور السيارات، وقالوا: إن السيارات تهدد باندثار الوسائل التقليدية التي تعد جزءاً مهماً في معيشتهم، والآن ومع معطيات الظروف الحالية، وجد الملك نفسه مضطراً لتشجيع حركة التنقل بالسيارات في الجزيرة العربية بشكل عام، معتبراً ذلك التوجه أمراً ضرورياً لا غنى عنه لتقدم مستقبل المملكة، وقرر أن لا يسمح لأي شيء في أن يؤثر على قراره بهذا الخصوص. وكخطوة أولى رشح أحد قادة أشراف مكة للإشراف على هذه الموضوع بالتشاور مع وزير المالية ومع رئيس مجلس الشورى، وما حدث هو أن الملك عبدالعزيز أثر بنفوذه على أعمال اللجنة ودعم موقفها ضد شكاوى وتذمر المطوفين، ليؤكد المؤسس أن سعادة ورفاهية مستقبل البلاد يعتمد على استمرارها ولا بد أن تستمر، ولم تحل الشركة ولا السيارة مشكلة النقل بشكل كامل، لكنها ساهمت وبشكل كبير في عملية تقليل الاعتماد الكلي على الجمال التي ظلت مع قيام تلك الشركة ولسنوات تشكل رافداً مهماً لسد عجز السيارة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج القادمين من مختلف الأصقاع، خاصةً حجاج الداخل الذين صار لهم دولة تؤمن لهم طرق الوصول إلى مكة والتنقل بين المشاعر بأمان. اختصار الوقت واختصرت السيارة حينها مشقة الطريق وأخطاره، وأيضاً المدة التي كانت تمتد حتى ثلاثة أشهر، ولعلنا عندما نتحدث بهذا الشأن عن القصيم والمنطقة الوسطى عامةً كمثال، فنحن لا نبتعد كثيراً عن الطريقة نفسها في الشمال أو الجنوب أو حتى دول الخليج المجاورة باستثناء حملات الحج المنظمة التي لم يوليها النجديون ذلك الاهتمام، فكان كل أهل بلدة يعتمدون على سيارة أحد معارفهم ويستعدون لذلك مبكراً سواء من جانب الحجاج أنفسهم بتأمين احتياجات السفر، أو من صاحب السيارة الذي يلزمه عمل صيانه كاملة حتى يتفادى أعطال الطريق ومتاهات الصحراء التي تكلفه الكثير، لا سيما وأن أغلب الطرق إلى مكة لا تزال طرق ترابية شديدة الوعورة واجتيازها يعد مغامرة، وقديماً لم يكن عدد الحجاج كبيراً حتى أن محافظة مثل الأسياح التي تزيد قراها وهجرها على العشر يكفي حجاجها سنوياً سيارتان إلى ثلاث سيارات، وهي في الغالب سيارات نقل مكشوفة -وانيت- حمولة طن واحد للعادي وطن ونصف للهاف لوري، وفي النادر تسير لوري حمولة ثلاثة طن. تقسيم الركاب ولعلنا هنا نذكر بإيجاز أجواء استعدادات الحج وتقسيم الركاب مع الوافد الجديد السيارة، فقبيل موعد انطلاق الرحلة اعتاد السائق الذي هو قائد الرحلة وقبل انطلاق الرحلة بيومين إلى ثلاثة اللجوء إلى رفع عدد من الأعلام الملونة على سيارته، وفي الليلة التي تسبق صبيحة يوم الانطلاق لا يبات السائق إلاّ بعد أن يمر على كل الركاب ويقوم بتحميل العفش وترتيبه، كانت سيارة الوانيت تحمل 25 راكباً بحد أقصى واللوري 34 راكبا، واختلفت أجرة الإركاب باختلاف الأعوام إذ كانت 30 ريالاً ثم 50 ريالاً حتى وصلت 80 ريالاً أواخر الستينات الميلادية عندما كان متوسط الرواتب لا يتجاوز 200 ريال في الشهر. وجرت العادة أن يقسم حوض السيارة خاصةً اللوري أو الهاف لوري بألواح تسمى السطحة، وتصف الألواح أفقياً لتغطي ثلثي الصندوق، ويترك الثلث مفتوحاً عند مؤخرة الحوض كتهوية، ويخصص الطابق السفلي بارتفاع قامة الرجل جالساً للعفش والنساء، والطابق العلوي للرجال، مع أن أكثر العفش كان يعلق على جوانب السيارة من خلال أكياس قماشية وأخرى منسوجة من الصوف تسمى "المزاود"، إضافةً إلى قِرب الماء، وتحتوي تلك المزاود على بعض أواني الطبخ والطعام والحطب، حيث يقسم الركاب أنفسهم كل عائلتين أو ثلاثة يشكلون مجموعة أو "خبرة" منفصلة في الطعام والشراب، أما درجات الإركاب فهي ثلاث درجات لكل درجة سعرها الخاص، فهناك ركاب الغمارة -قمرة السيارة- وتمثل الدرجة الأولى وسعرها يفرق بزيادة تعادل ربع الأجرة الكلية للصندوق، وهناك ركاب الحوض أو الصندوق وتمثل الدرجة العادية، بينما أقلهن سعراً ركاب "السلة" وهو الشبك أو القفص الحديدي الذي يمد من شبك صندوق السيارة فوق الغمارة ويغطيها طولاً وعرضاً، وتحمل أربعة إلى خمسة ركاب، لكنها تعد مكاناً مكشوفاً وخطيراً، وهي التي أشار إليها أحد الشعراء وإن كان قد اختلف المقصود: حدوني على ركب الغمارة وأنا أبغى فوق أبي مقدم الصندوق وإلاّ على السلة معي دفتر الرخصة وأنا ما عرفت أسوق ولا جيت أبا اشري موترٍ ما ورد كله هناك أيضاً مكان راكب واحد فقط، ولا يتسع إلاّ لأصحاب الأجسام الرشيقة، ولا يشغل هذا المكان إلاّ في حالة الضرورة ويسمى مكان أو مركب "السلقة"، ويقع على أيسر السائق بفصل بينه وبين الباب، وتطلق التسمية لكونه مكاناً مخصصاً لكلاب الصيد كما جرت العادة في رحلات القنص، إلاّ أنه قد يحدث تغيير وتبديل مفاجئ في هذه الأماكن في حال مرض أو إصابة أحد ركاب الدرجات الأخرى عندما يبادر ركاب المقدمة وبطيبة خاطر كما جرت العادة إلى التنازل عن مقاعدهم في الغمارة لأي مريض أو مُجهَد دون أي مقابل. ترديد الدعاء ويكون الحي أو القرية صبيحة يوم الانطلاق قد احتشد معظم السكان كبيراً أو صغيراً، رجالاً أو نساءً، سواء ممن لهم حجاج مسافرون أو غيرهم من الجيران والمعارف، حتى يشهدوا لحظة الوداع، وهنا تكاد لا تسمع إلاّ النحيب والبكاء وأصوات ترديد الدعاء المنطلق من حناجر كبار السن وتطميناتهم، أمّا سائق السيارة الذي تتجه له الأنظار في هذه اللحظة ويعتبر مخلوقاً استثنائياً بفطنته وقدرته، فهو عادةً لا يظهر إلاّ في اللحظات الأخيرة وب "تنسيفة" غترته التي تميزه عن البقية -تنسيفة السواقين-، وأيضاً ملابسه، وفي هذه اللحظات قبيل لحظة الانطلاق لا بد أن يضفي على المشهد مزيداً من الإثارة وهو يتنقل بسرعة فائقة بين إطارات سيارته الأربعة يركل برجله كل أطار لجس مستوى ضغط الهواء ثم يرفع غطاء "الكبوت" ليسحب مقياس الزيت ومعاينة مستوى ماء الراديتر، أما الحركة الأخيرة في مسلسل الإثارة والتي تسبق لحظة الانطلاق والقفز إلى المقعد خلف مقود السيارة، فهي الانزلاقة الشهيرة التي يتعمدها أغلبهم تحت السيارة لتفقد محركاتها السفلية. تحسباً للظروف وعن مدة الرحلة من وسط المنطقة الوسطى، فقد كانت تتراوح بين أربع أيام إلى أسبوع كامل قبل تعبيد الطرق، لهذا فإن أغلبهم كان يتقدم قبل موعد الحج بمدة كافية قد تصل إلى شهر تحسباً لأي ظرف، بالذات أعطال السيارة التي تجبره أحياناً إلى ترك السيارة مع ركابها في الصحراء وانتظار قدوم أي سيارة تنقله ليغيب يومين إلى ثلاثة لجلب قطع الغيار، والسيناريو نفسه والمدة تكون في رحلة العودة اللهم إن أحمال السيارة قد تزيد بما يجلبه الحجاج من هدايا وبأكياس شرائح اللحوم المجففة والمملحة التي عادةً ما يعودون بها من لحوم الهدي والأضاحي، تعلق وتغطي جنبات السيارة تماماً حتى يكاد لا يرى إلاّ مقدمتها، حيث تسير تحت جبل من الأكياس، ودوماً يحكم طول وقصر الرحلة نوعية وكفاءة السيارة ومهارة سائقها، وتفرق المدة بين سيارة وأخرى وسائق وآخر، لهذا فإن أحد الحجاج إن لم يكن أصلاً سائق سيارة قد ندب حظه العاثر يوماً من الأيام مع ظهور "الهاف" الذي كان أكثر كفاءة من مثيلاته وقال بذلك قصيدة لا تزال تردد حتى اليوم: الناس حجوا على هافات وأنا على موترٍ عادي مكة يحطه تسع ساعات لا صرت للدرب معتادي يا ما حلا صرّت الهوبات لا حدّرت بك مع الوادي ولا بد من الإشارة إلى أن التسع ساعات التي ذكرها الشاعر كانت أمنية بعيدة المنال في وقتها، قبل أن تكون مبالغة غير منطقية لا تقبل إلاّ في لغة الشعر وشطحات الشعراء الذين يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم. الملك سعود -رحمه الله- والليدي آفلين التي أعلنت إسلامها وذهبت إلى مكة بالسيارة الباحث والمؤرخ الإنجليزي عبدالله فيلبي سيارة نقل الحجاج 1933م الجِمال نافست السيارات مع ظهورها لكنها لم تستمر اللوري وتحميل العفش قصة لن ينساها حجاج الماضي