حلّت السيارة تدريجياً في تنقلات الحجاج بدلاً من الناقة، وصارت لها شركات نقل بدلاً من قوافل الجمال، حيث أحدثت نقلة تاريخية ما كان أحد يتصورها، واختصرت عليهم مشقة الطريق وأخطاره، وأيضاً المدة التي كانت تمتد حتى ثلاثة أشهر، ولعلنا عندما نتحدث بهذا الشأن عن القصيم والمنطقة الوسطى عموماً، فنحن لا نبتعد كثيراً عن الطريقة نفسها في الشمال أو الجنوب أو حتى دول الخليج المجاورة، باستثناء حملات الحج المنظمة التي لم يولها النجديون ذلك الاهتمام، فكان كل أهل بلدة يعتمدون على سيارة أحد معارفهم، ويستعدون لذلك مبكراً سواء من جانب الحجاج أنفسهم بتأمين احتياجات السفر، أو من صاحب السيارة الذي يلزمه عمل صيانة كاملة حتى يتفادى أعطال الطريق ومتاهات الصحراء التي تكلفه الكثير، لاسيما أن أغلب الطرق إلى مكة ترابية. سيارات نقل ولم يكن عدد الحجاج كبيراً حتى إن محافظة مثل الأسياح التي تزيد قراها على العشر قرى وبلدات صغيرة يكفي حجاجها سنوياً سيارتان إلى ثلاث، بل سيارة واحدة في البدايات الأولى، وكانت نوعية السيارات نقل مكشوفة وغير مخصصة للركاب، إما وانيت "فورد" وحمولة العادي طن واحد، أو "الهاف لوري" طن ونصف، أو "لوري" ثلاثة طن، وقبيل موعد انطلاق الرحلة بيوم أو يومين يرفع فوقها الأعلام الملونة، وفي الليلة التي تسبق صبيحة يوم الانطلاق لا يبات السائق إلاّ بعد أن يمر على كل الركاب وتحميل العفش وترتيبه. كانت سيارات الوانيت تحمل بحد أقصى حوالي 25 راكباً بينما تصل حمولة اللوري 34 راكباً، واختلفت أجرة الإركاب على الدرجة العادية ذهاباً وإياباً باختلاف السنوات، فقد كانت بمعدل 30 ريالاً ثم 50 إلى أن وصلت 80 ريالاً أواخر الستينات، عندما كان متوسط الرواتب لا يتجاوز 200 ريال، وجرت العادة أن يقسم حوض السيارة خاصةً اللوري أو الهاف لوري بألواح تسمى السطحة، وتصف الألواح أفقياً لتغطي ثلثي الصندوق ويترك الثلث مفتوحاً عند مؤخرة الحوض كتهوية، ويخصص الطابق السفلي بارتفاع قامة الرجل جالساً للعفش والنساء، والطابق العلوي للرجال، مع أن أكثر العفش كان يعلق على جوانب السيارة من خلال أكياس قماشية وأخرى منسوجة من الصوف تسمى المزاود إضافةً إلى قرب الماء، وتحتوي تلك المزاود على بعض أواني الطبخ والطعام والحطب، حيث يقسم الركاب أنفسهم كل عائلتين أو ثلاثة يشكلون مجموعة أو "خبرة" منفصلة في الطعام والشراب. ثلاث درجات وعن درجات الإركاب فقد كانت ثلاث درجات لكل درجة سعرها الخاص، فهناك ركاب الغمارة "قمرة السيارة" وتمثل الدرجة الأولى وسعرها يفرق بزيادة تعادل ربع الأجرة الكلية للصندوق، وهناك ركاب الحوض أو الصندوق وتمثل الدرجة العادية، بينما أقلهن سعراً ركاب "السلة"، وهو الشبك أو القفص الحديدي الذي يمد من شبك خيمة السيارة ويغطي الغمارة كاملة طولاً وعرضاً، ويتسع لعدد قليل من الركاب 3 - 4 ركاب، ويعد مكاناً سيئاً لخطورته وبقائه مكشوفاً في حال هطول الأمطار واشتداد البرد، حيث لا يصله الشراع الذي يغطي الحوض كاملاً في هذه الظروف، والذي قال عنه الشاعر وإن اختلف المقصد: حدوني على ركب الغمارة وانا أبغي فوق أبي مقدم الصندوق وإلاّ على السله معي دفتر الرخصة وأنا ما عرفت أسوق ولا جيت أبا اشري موترٍ ما ورد كله هناك أيضاً مكان راكب واحد فقط ولا يتسع إلاّ لأصحاب الأجسام الرشيقة لا يشغل هذا المكان إلاّ في حالة الضرورة يسمى مكان أو مركب "السلقة"، ويقع على أيسر السائق يفصل بينه وبين الباب، وتطلق التسمية لكونه مكاناً مخصصاً لكلاب الصيد كما جرت العادة في رحلات القنص، إلاّ أنه قد يحدث تغييرا وتبديلا مفاجئا في هذه الأماكن في حال مرض أو إصابة أحد ركاب الدرجات الأخرى عند ما يبادر ركاب المقدمة وبطيبة نفس كما جرت العادة إلى التنازل عن مقاعدهم في الغمارة لأي مريض أو مجهد دون أي مقابل. إثارة السائق وفي صبيحة يوم الانطلاق يكون الحي أو القرية قد احتشد معظم سكانها كبيراً وصغيراً، رجالها ونساءها، سواء ممن لهم حجاج مسافرون أو غيرهم من الجيران والمعارف حتى يشهدوا لحظة الوداع، وهنا تكاد لا تسمع إلاّ النحيب والبكاء يعانق أصوات ترديد الدعاء المنطلق من حناجر كبار السن وتطميناتهم، أماّ سائق السيارة الذي تتجه له الأنظار في هذه اللحظة ويعد مخلوقاً استثنائياً بفطنته وقدرته، فهو عادة لا يظهر إلاّ في اللحظات الأخيرة وب"تنسيفة" غترته التي تميزه عن البقية "تنسيفة السواقين"، وأيضاً ملابسه التي يتعمد تلطيخها بالزيوت بعد أن يكون الركاب قد أخذ كل منهم مكانه، وفي هذه اللحظات قبيل لحظة الانطلاق لا بد أن يضفي على المشهد مزيداً من الإثارة وهو يتنقل بسرعة فائقة بين إطارات سيارته الأربعة يركل برجله كل إطار لجس مستوى ضغط الهواء، ثم يرفع غطاء الكبوت ليسحب مقياس الزيت ومعاينة مستوى ماء الراديتر، أمّا الحركة الأخيرة في مسلسل الإثارة والتي تسبق لحظة الانطلاق والقفز إلى المقعد خلف مقود السيارة، فهي الانزلاقة الشهيرة التي يتعمدها أغلبهم تحت السيارة لتفقد محركاتها السفلية. لحوم الهدي وعن مدة الرحلة فقد كانت تتراوح بين أربعة أيام إلى أسبوع كامل قبل تعبيد الطرق، ولهذا فإن أغلبهم كان يتقدم قبل موعد الحج بمدة كافية قد تصل إلى شهر تحسباً لأي ظروف، وبالذات أعطال السيارة التي تجبره أحياناً على ترك السيارة مع ركابها في الصحراء وانتظار قدوم أي سيارة تنقله ليغيب يومين إلى ثلاثة لجلب قطع الغيار، ونفس السيناريو والمدة تكون في رحلة العودة اللهم إن أحمال السيارة قد تزيد بما يجلبه الحجاج من هدايا وبأكياس شرائح اللحوم المجففة والمملحة، التي عادةً ما يعودون بها من لحوم الهدي والأضاحي، تعلق وتغطي جنبات السيارة تماماً حتى يكاد لا يرى إلاّ مقدمتها وتسير تحت جبل من الأكياس، ودوماً يحكم طول وقصر الرحلة نوعية وكفاءة السيارة ومهارة سائقها، وتفرق المدة بين سيارة وأخرى وسائق وآخر، ولهذا فإن أحد الحجاج إن لم يكن أصلاً سائق سيارة قد ندب حظه العاثر يوماً من الأيام مع ظهور "الهاف" الذي كان أكثر كفاءة من مثيلاته، وقال بذلك قصيدة لا تزال تردد حتى اليوم: الناس حجوا على هافات وانا على موترٍ عادي مكة يحطه تسع ساعات لا صرت للدرب معتادي يا ما حلا صرّت الهوبات لا حدّرت بك مع الوادي ولابد من الإشارة إلى أن التسع ساعات التي ذكرها الشاعر كانت أمنية بعيدة المنال في وقتها، قبل أن تكون مبالغة غير منطقية لا تقبل إلاّ في لغة الشعر وشطحات الشعراء الذين يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم. قوافل الحجاج يجدر بالذكر أنه وحتى سنة 1346ه كانت عملية نقل الحجاج إلى مكة والمدينة وداخل المشاعر يعتمد بشكل كبير على الجمال التي كانت تتبع لهيئة اسمها "هيئة المخرجين"، تتولى مسؤولية إحضار الجمال والجمّالة، وتتبعهم جماعة أخرى تعرف بالمقومين يتولى هؤلاء تقدير حمولة الجمل من عفش ومؤن الحجاج وركوبهم وأجرة الجمل إذا كان محملاً أو يحمل الحاج وملابسه فقط، إذ كان لكل منهما سعر خاص إلاّ أنه ومع بداية هذا العام أصدر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أمراً سامياً بالمصادقة على نظام تسيير السيارات الذي تأسست شركته "الشركة السعودية الوطنية لسير السيارات بالحجاز" قبل عام فقط، وكان من الطبيعي أن تفكر شركة النقل في أخذ القسم الأكبر من حركة المواصلات، لكن لاحت في الأفق عقبة غير متوقعة إذ احتج المطوفون على احتكار هذه الشركة لحركة المواصلات، ذلك لأنهم اعتادوا تحقيق ربح وافر من جراء تأمين الجمال لنقل الحجاج في الفترة التي كانت الشركات الخاصة تعمل بكل حريتها، وبدؤوا حملة إعلامية نشروها بين الحجاج تؤكد على فائدة التنقل بالجمال وبالتأكيد على شرعيتها من الناحية الدينية والسنة النبوية، والواقع أن حملتهم حققت نجاحاً ملحوظاً وبدأت قوافل الحجاج بأعداد كبيرة من الجمال تجوب الشوارع بين مكةوجدة، الأمر الذي انزعجت منه مؤسسات النقل بالسيارات. تشجيع السيارات وبحسب عبدالله فيلبي فقد رفع الموضوع للملك عبدالعزيز الذي سبق له أن نزل عند رغبة البدو في التنقل بالجمال بعد أن احتجوا على دور السيارات، وقالوا بأنها تهدد باندثار الوسائل التقليدية التي تعد جزءاً مهماً في معيشتهم، والآن ومع معطيات الظروف الحالية، وجد الملك نفسه مضطراً لتشجيع حركة التنقل بالسيارات في الجزيرة العربية بشكل عام، معتبراً ذلك التوجه أمراً ضرورياً لا غنى عنه لتقدم مستقبل المملكة، وقرر ألا يسمح لأي شيء في أن يؤثّر على قراره بهذا الخصوص، وخطوة أولى رشح أحد قادة أشراف مكة للإشراف على هذه المسألة، وذلك بالتشاور مع وزير المالية ومع رئيس مجلس الشورى، وما حدث هو أن الملك أثر بنفوذه على أعمال اللجنة ودعم موقفها ضد شكاوى وتذمر المطوفين الذين ظهروا على أعتاب قصر الملك ليسمعوا من الملك بعض الحقائق التي تتعلق بتآمرهم الهادف إلى تدمير شركة المواصلات عن طريق إقحام تفسيرات وفتاوى محرفة وغير مبررة منسوبة للقرآن والسنة، وأضاف الملك أن سعادة ورفاهية مستقبل البلاد تعتمد على استمرارها ولا بد أن تستمر. لم تحل الشركة ولا السيارة مشكلة النقل مع ضعف الإمكانات، وأيضاً مشكلة جاهزية الطرق بشكل كامل، ولكنها ساهمت وبشكل كبير في عملية تقليل الاعتماد الكلي على الجمال، التي ظلت مع قيام تلك الشركة ولسنوات تشكل رافداً مهماً لسد عجز السيارة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج القادمين من مختلف الأصقاع، خصوصاً حجاج الداخل الذين صار لهم دولة تؤمن لهم طرق الوصول إلى مكة والتنقل بين المشاعر بأمان. Your browser does not support the video tag.