توقف أمام المنزل، انهمك يرش عطره، بينما يحاول التملص من مكالمة هاتفية، شعر ببادرة النجاح في ذلك ليطرق جرس الباب بينما يختتم المكالمة، نطق مختتمًا بعبارات متقطعة: «الله يسلم.. ما تقص..ولا يهم..» قاطعه المتحدث في كل مرة، كأنما شعر بنفاد الوقت ورغبة إنهاء لواعجه معًا، تسارعت أصوات الأطفال المرحبين بلهفة، كيف لا؛ وقد جاء من يسمح لهم بكل شي، لا يمانع إدخال أيديهم بفضول في جيوبه، ولا يبدي انفعالاً تجاه النقود التي يهربون بها ضاحكين، لا يكترث لعبث واحدهم في هندامه، يبتسم دائمًا أمام كل ما يمتعض منه الجميع، كأنما يتحدّاهم في فعل ما يقطب له حاجبيه، فينهزم كل واحد منهم هزيمة يتمناها، وأمام المضيف الواقف دون انفعال، كانوا يؤكدون بكل ما تبدي عفويتهم وجهة نظرٍ قديمة حول أن الأطفال لا ينبغي خفض الجناح إليهم، سكونهم في رهبتهم، أرجى من جرأتهم الشغوفة، آمن من أسئلتهم المداهمة. دعا ضيفه للدخول بينما ينهر الأطفال بطريقة يائسة، وكان دخوله للمكان يشبه زفة العروس، تتناقلها التحايا ويحفها الاكتراث، بيد أن الجميع هنا لا يزغرط، سرعان ما كانت الجلسة هادئة بعد خروج الأطفال مكرهين، انسل الحديث بارعًا في رتابته، موغلاً في روتينه، وما بين الضيافة والنّكات التي حملها معه، طافت بالمكان قهقهات مجهدة، وابتسامات موجعة، وشفاه كانت قبل قليلٍ تشي بما آل عليه الزمان من مرض وفقد، لكنه في حضوره، يحسن انتقاء الأمل، وبثّ السكن، وإضفاء قداسة التسليم، وهو بذلك مثالٌ حيّ على أن فاقد الشيء يعطيه! سرعان ما بلغ حدّ التواصل، الذي به عادة يكتفي ويختفي، فقام مودعًا واعدًا، وموافقًا على كل شيء، طالما لن تكف خطواته عن الانسحاب خارجًا. حين همّ بالخروج؛ وجد أحدهم في انتظاره، أصغرهم الذي بلغ لتوّه الخمس سنوات، كان دقيق الملاحظة كأي طفل، لدرجة الانتباه لتفاصيل زياراته بصبر، ها هي فرصته ليكون خليّا معه تلوح، سرعان ما اتجه إليه بابتسامة منتصر، صافحتها بسمة محتفٍ عجول. انخفض يداعب ذلك الطفل، بينما انشغلت يده في لملمة ملابسه، أخرج مناديله ليمسح ما لون وجهه من أثر المفرحات، ويكمل سيره بعدها، دار الحديث بينهما في الطريق إلى الخارج، تنبئ أسئلة ذلك الطفل المتسارعة، بتفاوت بواعثها، أنه أعد لهذا الحوار عدّته، وصلا إلى الباب، لكن حديثه لم ينته بعد، ومطالبه المهمة لم تحضر بين يديه، الوعود لم تعد كافية، أو مجدية، بذل تضحيته في احتفاء قدميه، ليتبعه حتى الباب الأخير، الذي إذا أغلق سيحمل راكبه بعيدًا، هناك.. هناك الذي لا يعود منه أحد إلا حين ينسى أمله، أمسك هذه المرة بطرف الباب غاضبًا، موشكًا على البكاء في آن واحدْ، من الصعب عدم ملاحظة اليأس الباد على وجنتيه، التفت إليه الراكب بينما يهمّ برد جديد قبل أن يحرر نفسه، وينكفئ خلف ستار سعيه مجددًا، حل الصمت على الحديث، وتحدثت كل الأشياء دون حديث، سرعان ما انقطع في قلبه وترٌ ما، وتداعى عزمه العابث، سأل الطفل حول ما يريده؟ علّ حديث شفتيه أخف وطأة من إفصاح عينيه، وارتجاف يديه الممسكة ولا زالت بطرف الباب، -رغم ذوبان الداعي لذلك-، كان السؤال مربكًا لا يتوقعه، ففي كل مرة كان قناع التلطف يرفع حاجبيه عاليًا ليكشر عن حقيقته، ها هو يخسر الآن خسارة تمناها، ولم يتوقعها، انسلت مطالبه من شفتيه، كأنما هي أمنياتٌ خجلى من ماردها، سرعان ما سمع الإجابة الأصدق: «حاضر»، تنفس محرك السيارة الصعداء بينما يحمل الراكب الطفل ليركبه بجواره، في صورة تعبر عن نقلة روحية جسدية، عصية عن التفاعل، لدرجة أن يجلس بهدوء بينما يسير الاثنان نحو مجهولٍ لأحدهما ومشوّق معًا. * كاتب وقاص