كثيرون في هذا العالم يتمنون أن يروا نهاية قريبة للحرب الروسية - الأوكرانية، لكن أمنياتهم تتلاشى يومًا بعد يوم مع إصرار كلا الطرفين المتحاربين على الاستمرار فيها إلى نهايتها، وهي نهاية قد تجبرهما على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مثلما انتهت كل الحروب في التاريخ، أو أنها قد تؤدي إلى صدام نووي يؤدي إلى فناء البشرية. وعلى الرغم من دخول هذه الحرب عامها الثاني، إلا أن روسيا فشلت حتى الآن في جعل الرئيس الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلينسكي، يرفع الراية البيضاء ويقبل باحتلال روسيا لأجزاء من بلاده، بدعوى حماية الناطقين باللغة الروسية ومحاربة النازية الجديدة، ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف النيتو. ومع أننا لا ننكر حق الشعوب في الدفاع عن أرضها ومقاومة الاحتلال والغزو، إلا أنه بات واضحًا أن الولاياتالمتحدة وحلفائها في الاتحاد الأوروبي، قد استخدما أوكرانيا كمخلب قط في محاولة لهزيمة روسيا وتفكيكها، ثم التفرغ لاحتواء الصين بعد ذلك. والغريب في الأمر أن الرئيس زيلينسكي قد تماهى مع هذا المخطط وانغمس في لعبة الدول الكبرى، مثلما كان ينغمس في أدواره عندما كان ممثلاً، متوهمًا بأن الدعم الغربي سوف يستمر إلى ما لا نهاية، وأنه سوف يدخل التاريخ كبطل قومي فهو قد توقف عن ارتداء اللباس المدني، ويصر على ارتداء لباس شبه عسكري أو رياضي، كما لو أنه أقسم على التقشف مثلما أقسمت ملكة إسبانيا إيزابيلا الأولى أن لا تستحم إلا بعد طرد العرب من غرناطة. تشير مجريات الحرب أن الهجوم الأوكراني "الكبير" ضد روسيا قد بدأ من خلال ضرب مواقع متقدمة في العمق الروسي، ما أثار الرعب في المدن الحدودية مثلما أثارت الضربات الروسية الرعب بين سكان العاصمة الأوكرانية، ويبدو أن هذا هدف سيكولوجي في هذه الحرب التي لم تعد تعرف المحرمات أو الخطوط الحمراء. وما يشجع زيلينسكي على الدفع بالحرب إلى أبعد مدى حتى أسوار الكريملين، هو هذا السخاء الأميركي والأوروبي بتزويده بكل أنواع الأسلحة، ما عدا النووية، التي قاربت تكلفتها حتى الآن نحو 50 بليون دولار، وهو مبلغ كفيل بطرد شبح الجوع عن ملايين الناس الفقراء في هذا العالم. لذلك، لا تبدو في الأفق تباشير لتوقف هذه الحرب وخاصة بعد إعلان الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية، وفي مقدمتها بولندا وألمانيا وبريطانيا، على المساهمة في تزويد أوكرانيا بطائرات إف-16 لتضاف إلى ترسانة الأسلحة التي باتت تضم دبابات ليوبارد-2 وستورم شادو وصواريخ هايمارس وستنغر وغيرها. بعد الإعلان عن استعداد الولاياتالمتحدة بتزويد كييف بطائرات إف-16، قال الرئيس الأميركي جو بايدن، إنه حصل على تعهدات من ويلينسكس بعد استخدام الأسلحة الأميركية لضرب العمق الروسي، وهذا التصريح لم يقنع أحدًا لأن الإدارة الأميركية مثل الذي يأكل مع الذئب ويبكي مع الراعي، فهي في الواقع تسعى جاهدة إلى هزيمة روسيا، كما أن زيلينسكي نفسه لم يؤكد هذا التعهد، بل إن محللين كثيرين يعتقدون بأنه سوف يستخدم هذه الأسلحة في العمق الروسي بهدف توريط الغرب أكثر في هذه الحرب وابتزازه للحصول على مزيد من الأسلحة. ولأن "اللسان مغرفة القلب"، كما يقول المثل العربي، قال السيناتور الجمهوري بيلي غراهام خلال اجتماعه مع الرئيس الأوكراني، إن الاستثمار على "قتل الروس خلال الصراع في أوكرانيا كان أفضل أموال أنفقناها على الإطلاق". وهذه "حرب كبرى، بدأت موسكو تنغمس في ضبابها تدريجيًا "، كما صرح مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخائيلو بودولياك. من المؤكد أن هذه الحرب موجعة لكلا الطرفين، لكن يبدو أن الرئيس الروسي فلايديمير بوتين، مصمم على المواجهة، لأن هزيمته تعني هزيمة روسيا وتقديمه إلى المحاكمة كمجرم حرب بحسب قرار محكمة الجنايات الدولية الأخير بحقه، إلا أن هذا لا يعني بأن الحصار الاقتصادي والعقوبات الغربية لم تؤثر في الاقتصاد الروسي، وتنعكس على حياة مواطنيه وقد تثير متاعب داخلية على المدى الطويل تكون أكثر خطورة من الحرب الدائرة حاليًا. لهذا فهو منفتح على أي مبادرات سلام، ولكن " لا شروط مسبقة ولا تفريط بالمصالح الروسية ولن نسمح للأعداء بزعزعة بالأمن الوطني الروسي أو العبث به". ولأنه يؤمن بمقولة "إذا أردت السلام، فعليك الاستعداد للحرب"، بدأت روسيا بنشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلوروسيا وجمدت مشاركتها في اتفاقية ستارك. وفي مسعى لنقل المتاعب إلى الساحة الأوروبية وتخفيف الضغط عن بلاده، جاءت الأزمة الحالية بين صربيا وكوسوفو، التي لا يعرف حتى الآن إلى أين ستمتد. بالمقابل، يبدو أن الولاياتالمتحدة وحلف النيتو قد استنفدت خياراتها، فإذا لم يحقق زيلينسكي النصر الذي وعدهم به مقابل الأسلحة التي يمدونه بها، فسوف يقعون في مأزق كبير، لأن مخزونهم الاحتياطي من الأسلحة قارب على النفاذ ولأن هذا الحلف غير متماسك بالكامل فبعض الأعضاء مثل المجر وتركيا وفرنسا، لهم مواقف مغايرة للإجماع الذي تسعى إليه إدارة الرئيس بايدن. تبدو مواقف الإدارة الأميركية متناقضة، فهي تدّعي بأنها حريصة على السلام العالمي، في الوقت الذي لا تتوقف فيه عن التجييش وبناء المحاور والاستقطاب وحشد الحلفاء واستفزاز الصين، ففي الوقت الذي تعمل فيه على تحييدها في حرب أوكرانيا، تعمل على بناء شراكات لتصنيع الأسلحة في تايوان في انتهاك لمبدأ الصين الواحدة الذي تقول واشنطن بأنها تؤيده! يضاف إلى ذلك أن الولاياتالمتحدة أخذت تنظر بجدية إلى موضوع التهديد النووي، بعدما أغلقت روسياوالصين أمامها لإبعاد شبح الصدام النووي، ما جعل المتحدثين باسم البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية، يعربون عن قلقهم من الأسلحة الفرط صوتية، والحرب الالكترونية والذكاء الاصطناعي، وتحدثوا عن الحاجة إلى استراتيجية نووية جديدة. وعلى الرغم من المكابرة، إلا أن الإدارة الديمقراطية الحالية، برأي بعض المراقبين، تمر بأضعف حالاتها وهي في عامها الأخير وبايدن لا يتوقف عن السقوط ودونالد ترمب لا يتوقف عن الشماتة به، وملفات الفساد تفتح من جديد، وروسياوالصين تبنيان تحالفات جديدة من أجل عالم متعدد الأقطاب وكوريا الشمالية تقلق راحة حلفاء أمريكا في جنوب شرق آسيا بتجاربها الصاروخية التي لا تنتهي. أما كيف ستنتهي هذه الحرب، ففي الوصفة التي طرحها المبعوث الصيني لشؤون أوراسيا لي هوي يوم الجمعة: "على حلفاء أوكرانيا أن يوقفوا إرسال الأسلحة إليها إذا كانوا حقيقة يريدون وقف الحرب وإنقاذ الأرواح وتحقيق السلام". حتى الآن، لا يبدو أن هذه الدعوة تلقى آذانًا صاغية، لأن شركات تصنيع الأسلحة في الولاياتالمتحدة وأوروبا أقوى من الحكومات، وهي التي تغذي مفرمة اللحم في حرب أوكرانيا وربما في كل مكان مضطرب في هذا العالم!. .