غريبٌ كيف أنّنا معشر البشر تتشكل حياتنا من ذات العناصر الصغيرة المتآلفة وتثيرنا ذات الأشياء القديمة المتداعية والتي ننقب عنها في قلب القدم وعمق تاريخ ولى، نحن نبحث عن القرن التاسع عشر ومن عاش وقتها نظر لهؤلاء الذين سبقوهم ولو عدنا بالزمن لوجدناها قد عادوا. كانت مدام بوفاري قبل أن تُمسي مدام بوفاري وبعبارة أصح إيما ما كانت، إلا واحدة منا نحن البشر، تحلم بملكات قرأت عنهن في صفحات التاريخ وتختطف الروايات المخبأة تحت مريلة زميلاتها في الدير لتقرأها سرًا على نور شمعة ذابلة في سريرها ليلًا وتحلم بأسواق المدينة الباهظة وتبُهجها الرسومات التي تصادفها في الصفحات والتي تمثل عذراء تحلم على جسر ليلي فيما تسبح خصلات شعرها في ضوء القمر! "وبلاد يسودها جو شاعري ومآذن التتر عند حافة الأفق وخرائب الرومان وأناشيد البجع المحتضر وهفهفة سقوط الأوراق الذابلة". إيما نشأت في الدير وحلمت بما وراء الدير طوال فترة إقامتها هناك، ونظرة واحدة من وراء نافذة عالية إلى الحقول الخضراء الممتدة امتداد البصر أسفل الدير كانت كفيلة بأن تُنبت لها جناحا فراشة وتجعل روحها تهفهف عالية إلى أقاصٍ منسية وأماكن ما خطت إليها قدماها من قبل! ثم لمّا عادت إلى منزل أبيها تسلل إلى روحها السريعة الملل الباحثة أبدًا عن شيء لن تصله قط الكثير من الضجر وبرمت بالمزرعة ونقيق الدجاج وصياح الخدم، وهكذا حينما قدم مسيو بوفاري لعلاج والدها ووقع في حبها ظنت نفسها واقعة بالضرورة هي الأخرى في الحب ووافقت أبيها على زفافها إلى هذا الطبيب الأشقر الذي لعله يقبض بين يديه على ما حلمت به طوال عمرها، لكن بطبيعة الحال ما إن ألفت عادات الزواج الصغيرة واستقر بها المقام في المنزل الريفي الجميل البسيط حتى تململت روحها مجددًا، وتاقت إلى السعة إلى الثراء إلى القصور الفاخرة والرياض الباذخة والموسيقى التي تُعزف ليل نهار والرقصات التي تدور بها في أنحاء غرف فسيحة منمقة، ولهذا كان ترديها. نعم، فحينما تستحيل القناعة تصغر كل النعم، والحقيقة أنه ما من شيء مهما بلغ كبره ونمت ضخامته كان كفيلاً بأن يملأ روحها ويشفي شغفها ويخمد نيران ضجرها المستعرة بين خافقيها أبدًا، ولا حتى أي حب في الوجود، إيما كانت ومنذ البداية تسعى لقضية خاسرة وتُنئي بجشعها أي قلب قربها أحبها يومًا بصدق وسعى لحمايتها، بدءًا من راهبات الدير ومرورًا بأبيها وانتهاءً بالطبيب الطيب الذي أوذي كثيرًا وعشقها ملء فؤاده شارل بوفاري، وكل حبيب أسبغ لها الوعود ونظم لها القوافي وعاهدها الأبدية نكص على عقبيه هاربًا في أول فرصة لدى استفحال جنونها وشراهة تملكها وطمعها الذي لم يكن لينضب أبداً. "لقد خيل لها أن في الدنيا بقاعًا تنبت السعادة كما لو كانت السعادة شجرة لا تنبت إلا في تربة معينة لا نمو لها في غيرها!" لكنها سعادة لن تذقها أو تعرفها إيما قط. ووقعت إيما في الحب، ليس مرة واحدة بل مرات عديدة، وصارت أقل كلمات الغزل تسحرها وتذيبها وقمينة بأن تجعلها تقع في حبائل قائلها بكل سهولة وسرعة، وهكذا سقطت في فخاخ رجال أعذب كلامًا وأوقع سحرًا وأكثر قدرة على تزييف الابتسامات يهرقون بالشعر الذي طالما قرأت عنه في الروايات وانتشت على أنغام قافيته، فيما زوجها المسكين الغافل لا يعنيه سوى صحة زوجته وسعادتها ودعة نفسها! وإني لأعجب لإيما فما كانت جنايتها بعد كل هذا التسخط واللهاث وراء أحلام ذاوية والتحلق حول العاشقين والفرار من واقعها الذي تعيشه إلا عذابًا فوق عذابها ونارًا تؤجج نيرانها الأولى وتذكي صبابتها، وما اهتدت في يوم قط إلى الراحة ولا عرفت للسعادة التي كانت تقرأ عنها طعمًا أو اهتدت لطريقها أبدًا! وإذا كان عذاب آنا كارنينا وسهادها وأرقها من ذنبها وخطاياها لم يفارقها يومًا فإن إيما لم تشعر يومًا بمثل هذه الآلام! ولم يصحُ ذات ليلة لها ضمير يؤنبها أو يقض مضجعها بل لقد كانت ترى في نفسها إثر كل إثم وكأنها المغبونة وكأنها الشهيدة وكأنها المضحية والضحية التي لم تنصفها الحياة قط! ولهذا كانت ذنوبها أعظم وكان سقوطها أعلى دويًا، ولأن مسيو بوفاري كان مدلّهًا في حبها لا يرى لها زلة ولا يحسبها إلا طيفًا من الملائكة فقد تردى معها وأدى بذخها والسرقات التي كانت تقوم بها في الخفاء من زوجها بين كل فينة وأخرى إلى إفلاسه، ولمّا تقرر الحجز على أملاك زوجها وعلمت أنها مفضوحة ولا شك وعجزت عن تدبير المبلغ اتجهت وكأنها في حلم إلى دار الصيدلية على حين غفلة من أهلها وابتلعت سم الزرنيخ القاتل. على أن أشد ما أراه غير منصف أنها ماتت دون أن يعلم زوجها من أمرها شيئًا، وعدا أنها كانت شديدة الإسراف فقد ظلت صورتها الملائكية لفرط غفلته مطبوعة في ذهنه، وانتهى به الأمر أن يقضي نحبه هو الآخر وحيدًا، مهجورًا، خائبًا، في بيت مقفر لا يحوي من الأثاث شيئًا إذ كان قد تم بيعه لسداد الديون، وفارقه جيرانه بعدما رأوا فارق المكانية الاجتماعية بينهما، وبعد أن كان الطبيب شارل بوفاري المرموق الطيب يحلم بمستقبل باهر لابنته الصغيرة وأعز ما على فؤاده انتهى بها الأمر أن تعمل طفلة في مصانع القطن، ولعل في إشارة الكاتب الأخيرة إلى سعالها المستمر ما يشي بأن هذه الطفلة الحبيبة لن تعيش لتبلغ زهرة شبابها. "فلا حزن في الفؤاد ولا تجاعيد في الجبين"، هذه رواية من أجمل ما قرأت من الروايات في جمال الوصف ودقته ورهافة حسه، وبرغم براعة القصة وحسن سبكتها وأصالة الحوارات فيها وكل تفاصيلها مدهشة مثيرة للذهول وللاستغراق أكثر فيها، فإنها تبقى رواية مقبضة للصدر يحزنك تردي بطلتها وفجورها وهوانها وينفطر قلبك أسى لمسيو بوفاري وتعجب كيف لامرأة واحدة أن تحيل بيتًا وأحلامًا وسعادة إلى حطام وخرائب يرثي لها العابرون. ومن الأمور المذهلة في رواية مدام بوفاري هي أن لكل شخصية فيها مهما بلغت ضآلتها وتفاهة دورها في سير القصة إلا أنها لها ثقلها وظلها وواقعيتها، تمامًا كما تكون حقيقة في الحياة، فإن الصيدلي مثلًا الذي تبتاع منه الدواء لهو إنسان من لحم ودم وعاطفة وأعصاب، حتى وإن كان مروره عابرًا بك، وهكذا كانت شخوص الرواية لابد لكل منها أن يترك أثره في الصفحات قبل أن يولّي ماضيًا، ولعل هذا أكبر دليل على أن الكاتب إنما هو يصف ما حوله وينقل حيوات حقيقية عاشت وتنفست في هذا الزمن الغابر الماضي، وتلقى نفسك في الرواية وقد نسيت في أي عصر أنت منه وغابت عنك أصوات العالم الخارجي وهويت في حفرة زمنية إلى منتصف العام "1856"وقد أصبحت في قرية "ايونفيل" واندمجت في حياة القوم وتشعر وكأنك قد صرت من أهل الريف الفرنسي حيث الأشجار وخرير النهر والهواء المعطر بشذا الأزهار يلفك أينما حللت، وتستطيع أن تدرك بسهولة أن الكاتب هنا لا يؤلف بأكثر مما ينقل بمقدرته الأدبية الفائقة وبالأسلوب الجزل الذي أوتيه قلمه وبكل السعة والتأني دقائق هذه الحياة وقتها، ولعلك إذا كنت تقرؤها في زمن الكاتب قد يعتريك بعض الملل لكثرة التفاصيل التي تصف كل شيء بدءًا من الملابس وحتى بالمشاعر التي تعصف بنفس إيما، لكن بما أنك تقرأ عن حياة مضى عليها أكثر من مائتي عام فرغمًا عنك ستشعر بسحر الكلمات يطغى عليك وتستنشق ملء صدرك نسمات الصبح الأولى البكر الطازجة وتبصر السموات التي تتفرق فيها السحب وتنزلق بنعومة عن ثغرها وتلمح "سقوف بلدة ايونفيل والحدائق الممتدة على حافة الماء والساحات والجدران وبرج الكنيسة". ومن المصادفات التي أضحكتني أن الكاتب جوستاف فلوبير كان يصف والد مدام بوفاري مسيو روو واكتملت صورته المتخيلة في ذهني حسب وصفه ثم أثناء قراءتي ملخصًا عن حياة الكاتب الفرنسي مرت صورته خاطفة وعدت لها وقد اعترتني رعدة خفيفة فصورته كانت طبق الأصل للصورة المتخيلة في ذهني عن المسيو روو ولعل الكاتب كان يصف بعض حياته ونفسه في هذه الشخصية المختلقة! ونتيجة لشهرة هذه الرواية ونتيجة للتشريح والتحليل الدقيق الذي أسبغه الكاتب على شخصية إيما وأفكارها وعوالجها التي أودت بها إلى الهاوية نشأ حديثًا مصطلح البوفاريزم إشارة إلى اسم مدام بوفاري وإسقاطه على كل سريعي الملل الطامحين إلى الهواء وما هم ببالغيه! الأشخاص الذين لا يملأ أعينهم إلا التراب كما يقولون والذين يتسببون في فساد أنفسهم ويحيقون بحماقتهم الخراب بكل ما حولهم. مدام بوفاري بشخصية إيما المرهفة الطامعة عُدت مادة ممتازة للعرض على الشاشة الكبيرة وهكذا حُولت لأفلام سينمائية منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى الألفية الحالية، وقامت بتمثيل دور إيما نجمات من مختلف الدول، منها فيلم أمريكي أنتج عام "1949"وآخر عام "1975"والفيلم الفرنسي الحائز على أوسكار والصادر عام "1991"، والمسلسل البريطاني عام "2000"والذي أعجب به النقاد بشدة، وآخرها فيلم أمريكي عام "2014".