تستضيف مدينة جدة، القمة العربية في دورتها الثانية والثلاثين، غداً الجمعة 19 مايو، برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وبحضور قادة الدول العربية من الملوك والرؤساء والأمراء، وسط أجواء متفائلة تقودها المملكة العربية السعودية، تأكيدًا على مكانتها ودورِها الرائدِ خلال السنوات الماضية، الذي مهد لتفاؤلية «قمة جدة» برؤية عربية تعمل على «تصفير الأزمات» بالمنطقة، وصياغة خريطة شرق أوسطية خالية مِن الاضطرابات تستشرف تحديات المستقبل في ظل تسارع وتيرةِ التغييرِ في عالم اليوم المليء بالفجائية والتعقيد والمهددات التي تواجِهُ المنطقة. وتأتي قمة جدة، متضمنة بجدولها العديد من الملفات ذات الأهمية، وفي مقدمتها الأزمة السودانية والقضية الفلسطينية، وملفات ليبيا واليمن ولبنان، والحرب الروسية الأوكرانية، في ظل رغبة عربية جادة لإعادة صياغة آليات العمل العربي المشترك برؤية مُقربة تستخلص الدروس من السنوات الماضية، وتُرسي تشاركاً عربياً مُتجدداً وأكثر تماسكاً واتزاناً وتأثيراً في ظل التحديات الإقليمية والعالمية، إذ تجسدت البوادر الإيجابية للقمة بالتوازي مع الاتفاق «السعودي - الإيراني» ومخرجاته نحو المصالحة والتهدئة في المنطقة، وكذلك بعودة سوريا إلى الجامعة العربية، فضلاً عن تعزيز الموازنة العربية في العلاقات الدولية مع القطبين الشرقي والغربي، والتعاون مع منظمتي «البريكس - وشنغهاي»، بجانب الاحتفاظ بعلاقات وطيدة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي، ودعم الجوانب الإنسانية في الحرب الأوكرانية. وقد سبق انعقاد القمة العربية، انطلاق اجتماع تحضيري لأعمالها على مستوى وزراء الخارجية العرب، وبمشاركة وفد سوريا، للتنسيق والاتفاق حول جدول الأعمال، وإعداد البيان الختامي الذي سيعلن في هذه القمة، كما سبق أن استضافت المملكة القمة العربية 29 في مدينة الظهران بالمنطقة الشرقية في أبريل عام 2018م، والتي حملت اسم «قمة القدس». دور سعودي فاعل تواصل المملكة خلال استضافتها للقمة العربية، دورها الفاعل في حلحلة أزمات ومشكلات المنطقة، في ظل سياستها المتجددة التي تركز كامل اهتمامها على إحداث التنمية الشاملة والمستدامة من خلال تطبيق برامج ومستهدفات رؤية المملكة 2030، كوثيقة وطنية نحو النهضة الشاملة، لا سيما ببناء مدن الجيل الرابع والمناطق الصناعية، والتحول إلى مركز إقليمي وعالمي للاقتصاد والاستثمار والطاقة والتصنيع والتكنولوجيا والسياحة والترفيه، بما يعزز من رؤية وسياسة المملكة بشأن «تصفير الأزمات»، ودفع عجلة التعاون الاقتصادي العربي نحو التكامل والتوازن ليجابه الأزمات العالمية من دون الصدام معها. ونجحت الدبلوماسية السعودية خلال الآونة الأخيرة، في تحريك المياه الراكدة مع الجانبين التركي والإيراني، على مختلف الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، بعد سنوات من الملفات الخلافية على وقع أزمات الشرق الأوسط بالغة التعقيد، إذ تتصف المرحلة السعودية الحالية بأنها أكثر ديناميكية بما يتناسب مع التوقيت الحالي بالغ الحساسية مع احتشاد القوى الغربية ضد روسيا وحربها مع أوكرانيا، فضلاً عن الانسحابات الأمريكي من العديد من النقاط الجيوسياسية الساخنة والبالغة التعقيد لا سيما أفغانستانوسوريا، بما يؤثر على الفواعل الإقليمية والعالمية. ويؤكد الاتفاقان التاريخيان لعودة العلاقات السعودية مع تركيا وإيران، وإذابة كرات الجليد بين جميع الأطراف، حرص الرياض على تعزيز السلام في المنطقة والعالم، وهو أمر نهجته المملكة طوال تاريخها كدولة صانعة وداعمة للسلام، لتشكل الرياض، بذلك فرصة سانحة على طبق من ذهب أمام جميع القوى الإقليمية الفاعلة والمؤثرة بمجريات الأمور بالشرق الأوسط، من أجل تقديم نواياهم الحقيقية والملموسة لفتح صفحة جديدة وإحلال السلام. وتعزّز السياسة السعودية بشأن "تصفير الأزمات الإقليمية" من إيجابية القمة العربية ال«32»، ففي الوقت الذي تتداخل وتتشابك خلاله أدوار القوى الإقليمية في العديد من الملفات والساحات، تعمل الرياض على جمع العرب على كلمة سواء وأرض مشتركة يمكن البناء عليها فيما يتعلق بالعلاقات العربية مع الأطراف الإقليمية والتعامل مع الملفات الساخنة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وليبيا والسودان، بما يوفر فرص إيجاد حلول جذرية لهذه الأزمات، تتضمن احترام حسن الجوار وسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها، وتُحدد ملامح مستقبل السلام بالشرق الأوسط، في توقيت دقيق وحساس. وبجانب صناعة السلام، قادت المملكة دول المنطقة نحو تعزيز البدائل الاستراتيجية، من خلال تنويع التحالفات مع أقطاب العالم، دون التخلي عن التحالفات الاستراتيجية مع الحلفاء الدوليين للدول المنطقة، تأكيد على تعظيم المصالح السعودية والعربية، من خلال حقيقة أنه مثلما تبحث الدول عن مصالحها، فالدول المنطقة الحق على أن تشكل أولوياتها وعلاقاتها وبلورة مصالحها الاستراتيجية. الملف الأمني رغم الأجواء المتفائلة والإيجابية للقمة العربية ال«32»، إلا أنها تنعقد وسط تحديات أمنية لازالت تشكل أولوية لدى صناع القرار في المنطقة، لا سيما استمرار جهود مكافحة الإرهاب، وتداعيات الأزمة في أوكرانيا، فضلاً عن حالة الانقسام التشرذم التي تشهدها السودان، جراء صراع الجنرالين، والمواجهات الدامية بين قوات الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، والتي أدت إلى مقتل وإصابة وتشريد عشرات الآلاف من أبناء الشعب السوداني الشقيق، وإحداث موجات من الفوضى والنزوح تلقي بظلالها على أمن القرن الأفريقي وكامل المنطقة. وتستقبل «قمة جدة»، نتائج إيجابية على صعيد الأزمة السودانية، بعد توصل اجتماعات مدينة جدة بين ممثلي فرقاء السودان، إلى اتفاق بالغ الأهمية في توقيت صعب من الاقتتال، قضى بالتزام طرفي النزاع بحماية المدنيين، وتمكين إيصال المساعدات الإنسانية بأمان، واستعادة الخدمات الأساسية، وانسحاب القوات من المستشفيات والعيادات، والسماح بدفن الموتى باحترام، مما بث الأمل في صدور السودانيين من جديد بشأن إنهاء الصراع، والحفاظ على مصالح ومقدرات الشعب السوداني. ويمتد الملف الأمني بالقمة العربية، لمواصلة جهود دعم القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الأولى، وتأتي أيضاً على قمة أولوية القمة العربية، بالتزامن مع انتهاكات إسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني أو ما تسميه إسرائيل بعملية «الدرع والسهم» التي تؤثر على استقرار المنطقة في ظل صمت دولي يغض الطرف عن تلك العملية التي تمارس فيها تل أبيب، تصرفات أحادية الجانب بضم الأراضي الفلسطينية، وهدم منازل الفلسطينيين، وإباحة اقتحامات المسجد الأقصى، إذ تسعى القمة العربية لكبح الجماح الإسرائيلي والعمل على حل القضية وفق مُحددات إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. وعلى صعيد متصل، يناقش الملف الأمني بالقمة العربية الواقع العالمي الجديد في ظل مخاض ولادة نظام عالمي جديد باتت تحكمه تشكلات وتكتلات سياسية وأمنية واقتصادية، تُحتم على دول المنطقة، مراجعة سياساتها الأمنية والاقتصادية في ظل تأثر التحركات والأسواق والاستثمارات العالمية بالواقع الجديد، من أجل مجابهة الأزمات وضمان الأمن الغذائي العربي والممرات المائية وجغرافية المنطقة، فضلاً عن تأمين العالم العربي من أخطار انتشار الأسلحة النووية. الملف الاقتصادي تنبع أهمية الملف الاقتصادي على طاولة القمة العربية، من الواقع الصعب الذي يعيشه الاقتصاد العالمي والعربي بعد تداعيات فيروس كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، والتنافس الأمريكي الصيني على زعامة العالم، وفرص التصعيد في أوروبا، ليصبح الاقتصاد أحد أهم الملفات التي وضعت الدول العربية أمام تحديات كبرى تفرضها ارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار، ما يجعلها أولوية من حيث البحث عن حلول بأروقة القمة، ترسم أطر التعاون والتكامل الاقتصادي العربي المشترك، وتتصدى للتحديات. وتعد لبنان، أحد البلدان العربية التي تعاني من انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، ما يجعل جرس الإنذار لا ينطفئ بشأن هذا البلد، أثناء انعقاد القمة، بهدف العمل على مساعدته في الاستقرار السياسي والعودة للتعافي الاقتصادي، مدفوعاً بعودة الوئام بين الأطراف العربية وإيران وسوريا. كما تشمل الملفات الاقتصادية مد يد العون للشعب الفلسطيني، للتخفيف من معاناته ودعم حقه في التنمية والاستقرار. وفي ظل المعاناة الاقتصادية العالمية، تفتح قمة جدة، الأبواب أمام تفاهمات عربية بين الدول المحورية، من أجل الدفع بعجلة الاقتصاد نحو التكاملية لإيجاد مُتنفس لاقتصادات المنطقة يضمن استمرارية الاستقرار والتنمية. عودة سوريا للدفء العربي تمثل إعادة سوريا إلى الجامعة العربية بعد تجميد عضويتها لنحو 12 عاماً، نقطة انطلاق التوافق العربي نحو حلحلة الملفات الساخنة بالمنطقة، فمن المقرر أن يرأس الرئيس السوري بشار الأسد، وفد بلاده في القمة العربية، بعد تسلمه دعوة رسمية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، لحضور القمة. جاء ذلك في أعقاب البيان الصادر عن الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب بمقر الجامعة العربية في القاهرة، في 7 مايو الماضي، الذي أكد على عودة مشاركة الوفود الممثلة للحكومة السورية في اجتماعات الجامعة العربية، حيث اهتدى الإجماع العربي بعد استخلاص الدروس من الأزمة السورية إلى أن الحلول التصالحية ربما هي الأجدى نفعاً في حل الأزمة السورية بعدما أدت الحلول العسكرية إلى تفاقم الأوضاع وتفشي الإرهاب ودمار الأراضي السورية في حرب راح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الشعب السوري. وتزداد واقعية الحلول السلمية بشأن الملف السوري وسط السياسة «التصالحية» التي تسود المنطقة حالياً، مع فعالية هذا التوجه نحو إحداث توافق وطني سوري وبناء الثقة بين أبناء الشعب السوري بعيداً عن التدخلات والإملاءات الخارجية، وبما يلبي طموحات السوريين في مستقبل يخلو من العنف والفوضى والاقتتال الأهلي، حفاظاً على وحدة النسيج السوري ووحدة الأراضي السورية. كما يسهم احتضان سوريا، في إزالة الاعتداءات الخارجية على سيادة هذا البلد العربي، ومنع تحوله إلى ساحة «حرب بالوكالة»، تستقبل القوات الأجنبية والاعتداءات العسكرية من كل صوب، فضلاً عن مكافحة الإرهاب على الأراضي السورية، ومنع تحولها إلى تهديد مُباشر للأمن القومي العربي. وتفتح إعادة سوريا للدفء العربي، أبواب إعادة الإعمار وعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم، والمقدر أعدادهم بأكثر من 13 مليون سوري، والذين شكلوا إحدى أكبر أزمات النزوح عالمياً بعد الحرب العالمية، لتتنفس سوريا التنمية من جديد وتستبدل ركام الحرب المؤلم بأزهار الشام، وفي الوقت نفسه تتخلص الدول العربية هي الأخرى من إحدى أكبر الأزمات المتربصة بالأمن القومي العربي. ملف سد النهضة تناقش القمة العربية، تطورات مشروع القرار المصري الذي سبق أن قدمته القاهرة، للجامعة، بشأن ملف سد النهضة الإثيوبي على منبع نهر النيل الأزرق المُتدفق من الأراضي الإثيوبية، والذي قد يشكل خطراً يمس بالأمن المائي لدولتي المصب مصر والسودان، حيث تسعى القاهرة، لتنشيط المناقشات والتنسيقات بشأن بلورة موقف عربي قوي ومؤثر فيما يتعلق بالممرات المائية في المنطقة، في الوقت الذي تعاني منه بعض الدول من الفقر المائي منها مصر والعراق وسوريا والأردن. شراكة عربية تتسم قمة جدة، بالعمل على توسعة الشراكة العربية في مختلف المجالات، حيث تتضمن «الأجندة الرقمية العربية 2023-2033»، في ظل الاهتمام العربي بقطاع التكنولوجيا كأحد ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية ومكافحة التغيرات المناخية، فضلاً عن مشاورات الاتحاد الجمركي العربي والمناخ الاستثماري العربي ومنطقة التجارة الحرة الكبرى، التي تزداد أهميتها في ظل تداعيات الأزمة الأوكرانية والتحديات التي تواجه الأمن الغذائي العربي، بالإضافة إلى مواصلة التشاور حول مشروع التأشيرة العربية الموحدة لأصحاب الأعمال والمستثمرين العرب، مشروع النظام الأساسي لآلية التنسيق العربية للحد من مخاطر الكوارث. لتضع «قمة جدة»، بصمتها التاريخية في لململة البيت العربي بعد حنين شعوب سوريا وليبيا والسودان واليمن، إلى العودة للاستقرار بعد «عقد أسود» من التشظي والصراعات مرّ عليها، إذا تتشارك هذه الدول حلم إعادة الأمن والأمان وإعادة بناء الدولة الوطنية وصون السيادة الكاملة في وقت يقف فيه العالم على أعتاب حرب عالمية باردة جديدة تحتم على كل دولة ضرورة موازنة ملفاتها.جدير بالذكر أن أول قمة عربية في تاريخ العرب، قد انطلقت في مدينة أنشاص المصرية، عام 1946م، بمشاركة 7 دول عربية هي الدول المؤسسة للجامعة العربية: السعودية ومصر والأردن والعراق واليمن وسورياولبنان، حيث عقدت بهدف التصدي للعدوان الإسرائيلي على فلسطين، والدعوة لتحرير المنطقة من الاستعمار.