تابعتُ لقاءً قديماً للدكتور مصطفى محمود -رحمه الله-، وقد كان يتحدث عن الكتب التي ألفها ونشرها وهي ما مجموعه سبعون كتاباً آنذاك، وذكر أن العبادات أقوال وأفعال، ومنها الأقوال السديدة، (يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم)، وأردف واصفاً كتبه: «قولاً سديداً هي دي سبعين كتاب على افتراض أنها قول سديد يعني!.». أدهشني د. مصطفى محمود بتواضعه الجمّ، فعلى الرغم من نتاجه العلمي والفكري والإعلامي الذي لا يزال يُستفاد منه في أيامنا، إلا أنه افترض أنها سديدة ولم يجزم بذلك. لذلك أثارني تساؤل حول دوافع سعينا إلى التعلم، هل التعلم غاية عُظمى أم أنها مكانة اجتماعية نحصل عليها حتى نشعر بالتقدير ونوصَف بكلمة (متعلمين)، وكيف يجب أن ينعكس حصولنا على التعليم على أخلاقياتنا في التعامل مع الآخرين والتعاطي مع العالم؟ يبدو لي أن تجربتي الدراسية قد أزاحت شيئاً من التساؤل.. أعتقد أن من درس في إحدى جامعات أميركا يلحظ أن مفهوم «التواضع العلمي» أو ما يعرف ب(Intellectual Humility) حاضر وملحوظ في قاعات الجامعة وأروقتها ومكاتب الأساتذة. ينص هذا المفهوم على أننا مهما بلغ حجم العلم الذي نمتلكه فنحن لا نزال غير متأكدين من صحة ما نعلمه بنسبة 100 %. لذلك يجب علينا عندما نواجه العالم (علمياً)، أن نتواضع في التواصل مع الآخرين، ونكون متقبلين للاختلاف، وأن لا نكون متأكدين قطعاً من أطروحاتنا وآرائنا بناءً على الكم الذي نملكه من العلم، وإلا سنكون عرضة لأن نقع في شباك الغطرسة العلمية والتي تُعرف بال(Intellectual Arrogance) وهي ما يمارسه بعض الأكاديميين أو المثقفين من الزهو بالمكانة العلمية والتعامل الفوقي في أوساط الجامعة وخارجها، وشعورهم بالتفوق الوهمي على الآخرين، وهذه الغطرسة تطال الناحيتين العلمية والأخلاقية. أعتقد أن نهج الإمام الشافعي قد سبق مفهوم التواضع العلمي الغربي عندما قال: (كل ما ازددت علماً زادني علماً بجهلي)، أي أن المتعلم يدرك أن حجم ما يجهله أكبر من حجم ما يعلمه، وأن مسيرة التعلم ليس لها سقف عالٍ. لذا أشعر أن جزءاً من المسؤولية التي توازي طلب العلم هي تهذيب أخلاقنا وتواضعنا تجاه الناس والعالم، ناهيك عن المسؤولية الأخرى وهي النتاج المعرفي الذي يجب أن يقدمه أولو الثقافة والعلم، بدلاً عن الاكتفاء بالمكانة فقط، »لا يزال المرء عالماً ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد بدأ جهله» -ابن قتيبة-. العلم ودرجاته والمعرفة بشتى مستوياتها عبارة عن مسؤولية أخلاقية وعلمية، من المؤسف أن يتوانى البعض عن حمل المسؤولية الاخلاقية جنباً لجنب مع المكانة العلمية.