من عجائبية الحكايات الوعظية الشعبية أيضاً أن المتلقي قادرٌ على الاستماع لأحاديث الموتى إضافة لأحاديث الكائنات والمخلوقات غير الناطقة، فالأموات الذين رحلوا عن دنيانا وغابت أصواتهم داخل القبور فئة من الفئات التي يعلو صوتها في تلك الحكايات، إذ يحرص أهل القبور الصامتين على نقل الرسائل الوعظية بوضوح لأهل القصور الغافلين، وتمكّننا الحكايات الوعظية من معرفة أحوالهم والاعتبار بأقوالهم التي تصل لأسماعنا وتؤثر في نفوسنا وترشدنا عبر أساليب يتفنن الرواة الشعبيون في ابتكارها. ولعل أعجب الحكايات هي التي يتحدّث فيها الموتى حديثاً مباشراً للبطل كما في حكاية (المقبرة) التي أوردها عبده خال في أساطيره، فقد اضطرت الظروف راعية الأغنام للمبيت في المقبرة لتستمع إلى حوار يصدر من قبرين متجاورين، وفيه تخبر صاحبة القبر الأول صاحبتها في القبر الثاني بأوصاف امرأتين سوف يمتن في اليوم التالي ثم يدفنّ في الجوار، وتقول المتكلّمة في وصف إحداهن: «بكرة بتزورنا وحدة حبيبة الدار والجار تنشر ثيابها وتزلق من السلم تطيح وتموت»، وفي اليوم التالي يصدقُ بعض ما أخبرت به صاحبة القبر باستثناء أن المرأة الموصوفة في العبارة لا تأتي للمقبرة، وعندما يحل الليل وتبدأ مسامرات الأموات تتعرّف الراعية وصاحبة القبر الثاني من صاحبة القبر الأول على سر تأخر موت تلك المرأة: «يا بنت الحلال الله سبحانه وتعالى قال صدقة قليلة تدفع سيئة كثيرة. الحرمة وهي تنشر ثيابها جاها مسكين يشحذ وعطته غداها وربي دفعه عنها الموت فلم تمت». وتحضر الموعظة المتعلقة بموضوع الصدقة في حكاية أخرى وباستعمال حيلة سردية يكثر استعمالها في نقل مواعظ الموتى وهي: المنامات والرؤى. ففي حكاية اسمها (مفتاح الوكالة) وردت في كتاب (أساطير الأولين) لمحمد الزهراني، يتصدّق ابن صاحب الوكالة باستمرار على الفقراء لكنه يقتّر على أهل بيته، وفي مرةً من المرات تأكل زوجته الطعام لسد جوعها بدلاً من إيصاله لفقراء المسجد، وعندما ينام الرجل يرى أن والداه يدعوان له ويقولان: «جزاك الله عنا كل خير فلم تصلنا صدقتك إلا البارحة»، فيدرك بعدها صدق مقولة: «الأقربون أولى بالمعروف». ومن الحكايات التي أوردها عبده خال حكاية (ضيف الله) التي استثمر فيها الراوي أيضاً الرؤيا لينقل لنا موعظةً تؤكد على سعة رحمة الله بعباده مهما بلغ تقصيرهم، فإمام المسجد الذي تحرّج من الصلاة على رجل «كان بعيداً عن أداء واجباته الدينية ويأتي المحرمات في كل حين» يلتقي به في المنام ليلة وفاته وهو «في أجمل صورة، تحفّ به حور العين»، فيخاطبه الميت قائلاً: «أنا في عليين». وحين يُبدي الإمام استغرابه يطلب منه أن يسأل رجلاً يُحدّده بالاسم لمعرفة سبب وجوده في الجنة خلافاً للمتوقع. وهي حكاية جميلة عقّب عليها خال بحكاية عربية مقاربة، وأشار إلى كثرة القصص التي تتحدّث عن رحمة الله الواسعة في التراث الإسلامي. في الحكايات السابقة نرى أن الراوي يبعث أصوات الموتى من القبور ومن المنامات والرؤى كي توصل مواعظه للمتلقين، وهي مواعظ تتنوع مضامينها لكنها لا ترتبط بموضوع الموت ارتباطاً مباشراً، مع أنّ موضوع الموت وحتمية لقائه من المواضيع المهمة التي تُعنى بها الحكايات الشعبية الوعظية عناية بالغة.