عبارة لا بد وأن تقع عليها عيناك وأنت تقرأ في كتب المواعظ وتراجم الأولياء؛ كحلية الأولياء، وصفة الصفوة، وتهذيب الكمال، إذ تُورد هذه العبارة في حكاية مناماتٍ رؤي فيها بعض الصالحين بعد موتهم بيسير فسُئلوا هذا السؤال، ولا إشكال في اعتبار بعض المنامات من الرؤى الصالحة المبشرة؛ ولكن الإشكال يرد حينما تجعل المنامات دليلاً شرعياً يُستدل به لصحة فعل أو بطلانه، أو لإضفاء مزيد فضيلةٍ لعبادة أو ذِكر أو نحو ذلك، وهذا ما يُفهم من سياقات منامات «ما فعل بك ربك؟» في تلك الكتب، ونحن نعلم أن الأصول التي يستدل بها لإثبات الأحكام الشرعية محصورة في أصول ليس منها الرؤى والأحلام، وإذا كانت العبادات تعبدية موقوفة على الشرع، فكيف تُجعل المنامات مصدراً لتحسين عبادة، أو تأكيد فضلها؟ جاء في تاريخ دمشق 39 /507 عن بعضهم أنه رأى صاحبه في المنام فقال: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: فمحمد بن عبيد أخوك؟ قال: ذاك أرفع مني. قلت: بِمَ؟ قال: لأنه كان يفضل عثمان على علي! ويلاحظ أن المنام أورد هنا مورد الاستدلال لتفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما؛ وكأنه لم يبق دليل يصح أن يستدل به على هذا التفضيل إلا ما تأتي به المنامات! وفي حلية الأولياء 8/171: أن سهيل بن علي رآه رجلٌ في المنام، فقال: ما فعل بك ربك؟ قال: نجوت بكلمة علمنيها ابن المبارك. قلت له: ما تلك الكلمة؟ قال: قول الرجل يا رب عفوك عفوك! فهل يُثبت لهذه الصيغة من الدعاء مزيةٌ على غيرها اعتماداً على هذا المنام؟! وفي شعب الإيمان 2/486 أن أحد الصالحين رأى محمد بن سعيد الترمذي في النوم فقال له: يا أبا جعفر ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بقراءتي «رفيع الدرجات ذو العرش» أي الآية 15 من سورة غافر، ويقال هنا ما قيل في سابقه. وفي فتح المغيث للسخاوي 2/181: أن الشافعي رؤي في المنام فقيل له: ما فعل بك ربك؟ فقال: رحمني وغفر لي، وإن سبب ذلك ما في خطبة كتابه «الرسالة» من الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم! يا للعجب! هبْ أن هذا المنام غير مكذوب، فهل عزّت أدلةُ فضيلة الصلاة على نبينا - عليه الصلاة والسلام - حتى يُستدل لها بهذا المنام؟! وفي البداية والنهاية 12/166: أن محمد بن علي - أحد القرّاء الصلحاء - رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل بك ربك؟ فقال: غفر لي بتعليمي الصبيان الفاتحة! وهل نحتاج لإقناع الناس بفضيلة تعليم الصبيان الفاتحة إلى هذه المنامات؟ وأين تقع هذه المنامات لإثبات فضيلة تعليم القرآن من قوله - عليه الصلاة والسلام: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»؟ وفي اقتضاء العلم العمل (ص92) عن نصر بن علي قال: سمعت أبي يقول: رأيت الخليل بن أحمد في المنام، فقلت له: ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، قلت: بِمَ نجوت؟ قال: بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قلت: كيف وجدت علمك؟ يعني العروض والأدب والشعر، قال: وجدته هباء منثوراً! وعلى فرض صحة هذا المنام، فهل فضيلة «لا حول ولا قوة إلا بالله» تحتاج إلى المنامات لإثبات فضلها؟! وهل يصح الاستدلال بهذا المنام لتزهيد الناس في الأدب والشعر وعلوم اللغة بأنه لا أجر فيها البتة؟ أفلا يكون في تعلم علوم اللغة وتعليمها ومعرفة أساليبها أجرٌ لمن نوى بذلك الإعانة على فهم أدلة الشرع ونصوصه وكشف أسرارها؟ قد يرى أحدنا في منامه بعضَ الموتى على حال حسنةٍ، أو يسمع منه في المنام ما يدل على سروره وحبوره، فيستبشر بذلك ويحتسبها من الرؤى الصالحة المبشرة التي يراها المؤمن، أو تُرى له، كما ثبت في الصحيح، ومثل هذا لا إشكال فيه؛ لأنها لم تُجعل دليلاً لإثبات حكم شرعي، أو لإضفاء مزيد فضيلة لذكرٍ أو دعاء أو عبادة. أمَّا أن تتحول المنامات إلى أدلة يُستدلّ بها فهذا خروج عن المنهج الشرعي قطعاً، وما أكثر الذين زلوا حين جعلوا منهجهم وسلوكهم نهباً لعواطفهم وأحلامهم، يعملون بمقتضاها، ويستدلون بها لصحة فعالهم، فهلكوا وأهلكوا، وفُتنوا وفَتنوا. والله وحده المستعان. * أكاديمي في الشريعة. [email protected] samialmajed@