تتحرك الدبلوماسية السعودية التفاعلية بشكل مؤثر وفعال باتجاه تصفير فوضى الأزمات والصراعات التي سببتها المعايير العالمية المزدوجة والتوازنات الدولية التي جعلت من المنطقة العربية ساحة لتصفيات القوى العالمية وبازار لبيع الأسلحة والاقتتال. وتبنت المملكة نموذجاً سياسياً بحلحلة الأزمات وعدم توسيع دوائره فضلاً عن التعامل وفق المصالح الاستراتيجية الأمنية العربية والإسلامية، وترتيب البيت العربي والإسلامي من الداخل على أسس مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، خصوصاً أن المملكة منذ تأسيسها في اعتمدت على تعزيز العمل العربي والاسلامي المشترك ومبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهذا المبدأ ما زال سارياً وسيظل في سياستها الخارجية، وسيظل من ثوابت المملكة، وتمثلت صدقية هذا المبدأ على الأرض، إذ لم يسجل التاريخ أية حالة من حالات التدخل السعودي في دول الجوار أو المنطقة العربية والإسلامية. وفي إطار ما توليه قيادة المملكة من حرص واهتمام بكل ما من شأنه خدمة قضايا الدول العربية، وفي ضوء ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من توجه عام نحو التهدئة والسلام وإيجاد حلول سياسية لأزمات المنطقة، فقد قدمت المملكة دعوة لوزير الخارجية السوري خصوصاً أن المملكة كانت ومازالت منذ بداية الأزمة السورية، داعمة لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، حيث إن استقرار سورية وأمنها من شأنه الإسراع في إنهاء الأزمة في الداخل السوري والإسهام في عودة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم، وتوفير البيئة المناسبة لوصول المساعدات الإنسانية لجميع المناطق في سورية. فضلاً عن التأكيد على حرص المملكة على دعم الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، الإدراك المتزايد لأهمية إيجاد سبيل لإنهاء الأزمة الراهنة في سورية، وعدم إمكانية استمرار الأزمة دون حلول سياسية تنهيها، كون استمرارها دون معالجة سيزيد من تفاقم معاناة الشعب السوري. وأكد خبراء سياسيون ودبلوماسيون عرب ل"الرياض" أن طبيعة الحراك الذي تقوده الرياض يعكس فهماً عالياً لطبيعة المتغيرات الجيو-ستراتيجية العالمية، وإعادة تموضع القوى الدولية، وعدم السماح للقوى العالمية المتأرجحة وغير المتزنة في مواقفها حيال قضايا المنطقة في الاستمرار في الاستثمار في حروب المنطقة، فضلاً عن تحقيق تقارب حقيقي عربي عربي لمواجهة التحديات والمتغيرات العالمية بتحصين البيت العربي من الداخل العربي قولاً وفعلاً بعيداً عن الشعارات الزائفة الماضية. كما تحرص المملكة تعميم هذا المبدأ في المنطقة، حتى لا تتحول المنطقة إلى غابة تطلق القوى الكبرى يدها على الضعيف، وتثير القلاقل والأزمات. ويشير التاريخ السياسي الحديث إلى دور المملكة في فض الكثير من النزاعات بين الدول وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والأمن والسلم العالمي.. وليس هناك رأيان أن الاتفاق السعودي -الإيراني الأخير برعاية الصين، صدمة إيجابية للعالم ولدول المنطقة، إذ تمكنت الرياض من طي صفحة الخلافات مع طهران بجدارة وحسن نية على أساس الاحترام المتبادل لسيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبهذا أوجد الاتفاق أجواء إيجابية على المستوى السياسي والأمني في المنطقة وإجراءات بناء الثقة في المحيط العربي والإسلامي، ما يبعث الأمل في إيجاد منطقة عربية جديدة خالية من الحروب والأزمات بقيادة سعودية حريصة على لم الشمل وتعزيز العمل العربي المشترك. خصوصاً أنه لا يتوقف عند وقف الخلافات والصراعات، بل يذهب إلى تشبيك العلاقات الاقتصادية، الأمر الذي يجعل من هذا الاتفاق قادراً على الحياة بشكل أصح، في ظل ترابط المصالح الأمنية والاقتصادية، فضلاً عن العنوان السياسي العريض القائم على نبذ التدخل في الشؤون الداخلية. وأكد خبراء عرب ل"الرياض" أن إيجاد حل سياسي للأزمة السورية يعزز الجهود القائمة لمكافحة الإرهاب والقضاء على التنظيمات الإرهابية المهددة لأمن سورية والدول العربية، ووقف عمليات تهريب المخدرات إلى دول المنطقة والاتجار بها، وبسط سيطرة مؤسسات الدولة على أراضيها لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة والتدخلات الأجنبية. ومن يتعمّق في نص البيان السعودي السوري المشترك، يجد أنه يحمل أبعاداً استراتيجية للمنطقة في إطار ما توليه المملكة من حرص واهتمام بكل ما من شأنه خدمة قضايا أمتنا العربية، وتعزيز مصالح دولها وشعوبها، ومن هنا جاءت زيارة، وزير خارجية سورية الدكتور فيصل المقداد، بدعوة من نظيره الأمير فيصل بن فرحان، حيث عقدت جلسة مباحثات بين الجانبين، جرى خلالها مناقشة الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدة سورية، وأمنها، واستقرارها، وهويتها العربية، وسلامة أراضيها، بما يحقق الخير لشعبها الشقيق. وأتقنت المملكة، طوال العقود الماضية، فلسفة إطفاء الحرائق السياسية في المنطقة، ومن الأولى تطبيق هذه السياسة مع دول الجوار، إذ لا بدَّ من أن يكون العمق الاستراتيجي آمناً للدولة السعودية حتى تمضي في مشروعها التنموي؛ الذي يتجسد في رؤية 2030، بعد أن تأكدت من حسن النوايا والرغبة الحقيقية في فتح صفحة جديدة من العلاقات المبنية على مبدأ عدم التدخل وهذا ما حصل أيضاً في العراق الجار العميق للمملكة، وتم نقل هذه العلاقة على أعلى المستويات بما فيها المستوى الاقتصادي، وبدا الاتجاه السعودي واضحاً لتجاوز التاريخ المرتبك مع دول الجوار، إلا أن الاتفاق مع إيران كان العنوان العريض للسياسة السعودية في تصفير المشكلات، وعقبه تعزيز العلاقة مع سورية في إطار حراك المملكة الحكيم والواعي والمستنير لتحويل المنطقة بحراً آمناً لا تتربص فيه دولة بأخرى، وعليه ستكون القمة العربية المرتقبة في المملكة، في مايو المقبل، عنواناً كبيراً في تاريخ القمم العربية، خصوصاً أن حضور سورية أصبح مقبولاً وممكنًا. إن صناعة السلام والاستقرار وطي صفحات الماضي يصنعه الشجعان، وفي الاتفاق السعودي الإيراني قدر كبير من الشجاعة والجرأة، إذ إنه خطوة مهمة لطيِّ صفحة الصراعات والخلافات، ولا تتوقف الشجاعة عند إعلان سياسة حسن الجوار، وإنما تجاوز ذلك بالسعي لتطوير العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسيةً. وهذا ما يبدو أن الأمور متجهة نحوه في إطار العلاقات السعودية السورية، حيث بحث الجانبان السعودي والسوري الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية تنهي كافة تداعياتها، وتحقق المصالحة الوطنية، وتساهم في عودة سورية إلى محيطها العربي، واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي. إن الوضع في المنطقة مرشح لتغيير الكثير من الوقائع والمعطيات، وتعزيز الجغرافيا التي تعتبر قدراً من أقدار الدول، ولا بد من التعامل معه بحكمة وحسن نوايا، نعم حسن النوايا كل ما تريده السعودية من إيران ومن دول المنطقة، حيث جرت الدماء في عروق في هذا الاتفاق، ونشاهد الخطوات الإيجابية فضلا عن الحراك السعودي السوري، فإننا أمام تحول جيوسياسي كبير في الشرق الأوسط والعالم، من شأنه أن ينعكس على الاقتصاد والتنمية في المنطقة خصوصًا أن الجانبين السعودي والسوري اتفقا على أهمية حل الصعوبات الإنسانية، وتوفير البيئة المناسبة لوصول المساعدات لجميع المناطق في سورية، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وإنهاء معاناتهم، وتمكينهم من العودة بأمان إلى وطنهم، واتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع في كامل الأراضي السورية، فضلاً عن تأكيد الجانبين أهمية تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بكافة أشكاله وتنظيماته، وترحيبهما ببدء إجراءات استئناف الخدمات القنصلية والرحلات الجوية بين البلدين خصوصاً أن وزير خارجية سورية أعرب عن تقدير سورية للجهود التي تقوم بها لإنهاء الأزمة السورية، وتقديمها المساعدات الإنسانية والإغاثية للمتضررين من جراء الزلازل التي ضربت سورية. وهدفت دعوة المملكة لوزير الخارجية السوري لزيارتها إلى مناقشة الجهود المبذولة للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية يحافظ على وحدة سورية وأمنها واستقرارها وهويتها العربية وسلامة أراضيها. وأسهمت زيارة وزير الخارجية السوري للمملكة في تعزيز العمل المشترك لتنفيذ الخطوات اللازمة لتحقيق تسوية سياسية شاملة للأزمة السورية تنهي كافة تداعياتها وتحقق المصالحة الوطنية وتسهم في عودة سورية إلى محيطها العربي والحفاظ على هويتها العربية ووحدتها. يشكل البيان السعودي السوري، تطورًا بالغ الأهمية وإنجازًا سياسيًا كبيرًا على المستوى العربي، وخطوة مهمة في طريق تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي سيكون لها ما بعدها. كما يحمل هذا البيان المشترك في طياته العديد من المؤشرات المهمة، سواء لجهة التأكيد على التوجه العام السائد حاليًا في منطقة الشرق الأوسط والمتمثل في سياسات "تصفير المشكلات" والذي بات المحرك الأساسي في طبيعة العلاقات بين الدول الإقليمية المركزية، أو لجهة دلالته بالنسبة للدور المتصاعد للقوى المحبة للسلام مثل الصين في منطقة الشرق الأوسط، وتخليها عن سياستها الحيادية إلى التدخل الإيجابي المثمر في حل النزاعات والخلافات الإقليمية والدولية، إضافة إلى ما يمثله هذا الاتفاق من دلالة، مهمة على طبيعة التحول والتغيير الحاصل في سياسات وتوجهات الحكومة الإيرانية والسورية وإداركهما لأهمية تبني سياسة عدم التدخل التهدئة والحوار هما السبيل الأنفع لهما، ولكل كل دول المنطقة بلا استثناء. ويؤكد الخبراء أن الأجواء الإيجابية في المنطقة والإقليم ستنعكس على تسويات منتظرة وحلحلة قضايا شائكة وكبيرة، خصوصا أن عودة العلاقات السعودية - الإيرانية، وتعزيز العلاقات السعودية - السورية، سيكون لها العديد من الانعكاسات على قضايا المنطقة الرئيسة وتعزيز سياسة "تصفير المشكلات": حيث تتجه العديد من دول الإقليم في سياستها الخارجية إلى تصفير المشكلات القائمة والمحتملة، والبحث عن حلول ابتكارية لتسوية خلافاتها مع دول الجوار، وعن صيغ جماعية أكثر تعاونية يربح فيها الجميع، خاصة بعد التداعيات السلبية للحرب الروسية الأوكرانية على دول الشرق الأوسط والحروب في المنطقة العربية. شهدت المنطقة في الآونة الأخيرة نموًا لافتًا في سياسة "تصفير المشكلات"، الأمر الذي أسفر عن تسوية الخلافات الخليجية – الخليجية، والحوار التركي - المصري، والتضامن الإنساني والسياسي الكبير مع تركيا وسورية عقب الزلزال الأليم الذي ضربهما، والعمل على عودة سورية إلى الحضن العربي. وهنا نستطيع القول إن "تصفير المشكلات" الذي بات العنوان الأبرز في السياسات الخارجية لدول الإقليم، بهدف التركيز على قضايا البناء والتنمية والازدهار لشعوبها كافة. كما أن الأجواء الإيجابية ستزيد فرص تسوية النزاعات المشتعلة في المنطقة وستفتح بلا شك الباب على مصراعيه للحوار لتسوية العديد من الأزمات المشتعلة في المنطقة، وفي مقدمتها الأزمة اليمنية، والأزمة اللبنانية والوضع في العراق. كما سيدفع الحراك السعودي إلى تشجيع الدول الأخرى في الإقليم، تطبيقًا لنظرية الدومينو، إلى الجلوس معًا لحل النزاعات المشتعلة الأخرى مثل الوضع في ليبيا، قد نجد الدول المتداخلة في الصراع الليبي تجلس معًا هي الأخرى من أجل وضع نهاية لهذا الصراع الذي تخطى عمره 12 عامًا. ومن شأن كل هذا أن يفتح المجال أمام استعادة الأمن والاستقرار في هذه البلدان، ومن ثم التركيز على جهود إعادة الإعمار وإعادة تأهيل البنية الأساسية، إلى جانب زيادة فرص التعاون الاقتصادي والتجاري بما يحقق التنمية والازدهار لشعوب المنطقة ككل. إن تسوية النزاعات والخلافات في المنطقة عمومًا، من شأنه أن يساعد على تحقيق التنمية المستدامة من خلال ما قد يتيحه من تنشيط حركة التجارة والاستثمارات المشتركة، خاصة في ظل ما يمتلكه البلدان من إمكانات اقتصادية وموارد نفطية كبيرة. وليس هناك شك أن الانفراجات في المنطقة سوف تساعد بلا شك دول الإقليم على تجفيف بؤر الإرهاب، ومحاصرة تمويل الجماعات الإرهابية، والميليشيات وجماعات العنف، في تهديد استقرار دول المنطقة الأخرى، الأمر الذي سوف يؤدي إلى الاستقرار والأمن في المنطقة. كما سيسهم استئناف العمل القنصلي وعودة رحلات الطيران بين المملكة وسورية، في معالجة العديد من المشكلات والصعوبات التي يواجهها بعض مواطني البلدين، وتعزيز التواصل بين شعبي البلدين، وسيكون له تأثيره الإيجابي على حالة الأمن والاستقرار التي تشهدها المنطقة برمتها. والمملكة ستستمر في تقديم كافة أشكال الدعم للشعب السوري الشقيق امتداداً لما قدمته من جهود ومساعدات إنسانية لملايين الأشقاء السوريين واللاجئين، وكذلك دعمها للمتضررين من الزلزال المدمر الذي تعرضت له المحافظات الواقعة في شمال سورية.