"إنَّ الاقتراب من الذَّات لابدَّ أن يقترب أولًا من الضَّمير الرِّوائِي بشكله الثُّلاثي: التَّجريدي/ الغائِب، والحاضِر/ المتكلِّم، والحاضِر/ المُخَاطب، أعني إنَّ قراءَة الضَّمير هنا في الخطاب الرِّوائي بتعدّده وتنوّعه, سوف يُحيلُنا بشكلٍ أو بآخر إلى تجليات هذه الذَّات السَّاردة في الخطابِ الرِّوائي، والخطابِ هُنا يعني - فيما يعني- مُخْتلف التَّجليات الكتابيَّة في الرِّواية، سواءٌ على مستوى النَّص- الشَّكل- أم على مستوى الدِّلالة." هذا الحديث جزء مما كتبته الأكاديمية بجامعة الملك عبدالعزيز الدكتورة أسماء الأحمدي في كتابها "إِشْكَاليَّات الذَّات السّاردة فِي الرّوايَةِ النِّسَائِيَّةِ السُّعوديَّةِ"، وأما ما نود كتابته لقراء "الرياض" فهو شيء آخر من تقصي ملامح الضمير المتكلم ومؤثراته وصنعته الإبداعية ومشاعر القارئ المُلتقطة والراسخة والمتماسكة والمتمسكة بكل نصٍ استعارت سرديته ضمير تكلّم الكاتب/المؤلف نيابةً عن البطل أو بلسانه الورقي طوال مدة نصه السردي. ولنقارب قراءنا من هذا التحقيق طرحنا تساؤلات "الرياض" التالية: الرواية السعودية بضمير المتكلم هل تشكّل عبئًا على كاتبها؟ وهل ترون أنّ ضمير المتكلم أقدر على تحقيق المتعة القرائية لدى قارئ النص أم أنّها ستحول النص إلى سيرة ذاتية تعبّر عن كاتبها ليس إلا؟ ويمكننا الخلوص مبدئيًا إلى أن هذه التساؤلات وغيرها قد نجحت إلى حدٍ ما في تشكيل توطئة للباحثين والباحثات، ولربما غدت نافذة يطلّع من خلالها القراء والقارئات على آراء متنوعة حول ضمير المتكلم، ووجهات نظر متعددة منها ما خلص إليه الروائي حسين الأمير حين قال: "إنّ الرواية أحد أهم فنون الكتابة الإبداعية التي يطالها التطور والتقدم ومستوى الصعوبة والتعقيد لتتناسب مع حركة العالم بشعوبه وبيئته. وقد طالت الرواية كثير من التحولات منذ بزوغها مع هذا مازالت قيد التطول والتحولات وستظل". ووصف الأمير الضمير المتكلم في السرد بأنه: "صفحة لتطور الكتابة الروائية، كما أنه تعبير لمدى الدقة التي تعكس التطور الحاصل في العالم كله وبالطبع هناك مزيد من صفحات التطور التي يجب على الكاتب مواكبتها بل والمساهمة في عملية التطور نفسها من خلال اتباع منهج التجريب. ولا يمكن لصاحب القلم الابداعي أن يبقى حبيسًا لتجارب الآخرين وإنما عليه الإسهام في الإبداع والتجريب." واختتم حديثه بالإشارة إلى أن "الكتابة بضمير المتكلم تعمق الحدث أكثر وهي بدورها تطلب أن يكون الكاتب عمليًا ودقيقًا فيما سيكتبه بشكل أكبر؛ وسيجبره هذا الضمير على أن يكون عميقًا في كل أفكاره الروائية؛ لأن التعمّق أحد أساسات الرواية؛ وإن افترضتُ سؤالًا: هل الكتابة بهذه الطريقة تفتح الباب بشكل أوسع لانعكاس حياة الكاتب عليها فسأجيب عليه بقولي: نعم بالطبع، وقد يظهر هذا جليًا على مستوى أولى أعمال الكاتب ولكن سرعان ما ستتقلص نسب هذا الانعكاس مع تقدم الأعمال لصالح الاحترافية في الكتابة بعيدا عن (شخصنتها) وهي بذلك تقدم عملًا أدبيًا أكثر قربًا للقارئ وأكثر إحاطة وإفادة له بالقضايا التي يقرأها؛ لأنها تلامس بطبيعة الضمير المتكلم لسان القارئ ومشاعره وربما طابقت بعض الشخصيات كثيرًا من القُرّاء فيعشقونها ويتعلقون بها." فيما رأى الروائي إبراهيم المكرمي "بأن تأثير الضمير المتكلم علينا له علاقة في تكويننا المعرفي الأولي، وخلفياتنا التراثية والاجتماعية التي ظلت لعقود تتخذ منه أسلوب حياتي خاص بها ، فالأساطير والحكايات الشعبية -مثلاً- التي كنا نتداولها في مجالسنا المعتادة لم يكد يتكمل تأثيرها السردي أو الحكائي للمستمعين إلا من خلال الاتكاء على ضمير المتكلم –في أحايين كثيرة- ومن هنا نرى أن حكايات عربية راسخة في الوجدان العربي كألف ليلة وليلة واحدة من محفزات التكلّم ليس بضمير المتكلم وحده فحسب ولكن باعتباره اشمل الضمائر وأقدرها على قوة الجذب والتأثير ومن هنا صار لهذا الضمير قدرته على التأثير البالغ في القارئ والملتقي." وأضاف: "عندما يعجبك نص روائي ما فإنك سرعان ما تنجذب للبحث عن خلفيات كاتبه/ مؤلفه الحياتية وعلى الغالب فأنك قد تبني علاقة ما بين عمله الروائي وتجربته الحياتية ونسقه التاريخي طامحًا من خلال هذا البناء في تحصيل أكبر كمٍ من الدلائل والقرائن التي قد توصلك في النهاية إلى فحص البطل المتكلم ثم الفصل بين هوية أيهما يكون هذا المتكلم: الكاتب أم بطله." واختتم "المكرمي" ليس مهمًا عندي الكتابة بضمير الغائب أم المتكلم طالما استطاع هذا الضمير أن يقدم لي أدبًا رفيعًا ومتعة قرائية." وجاء رأي الكاتبة عهود القرشي متماهيًا مع ما ذهب إليه التحقيق من الأعباء التي يخلقها هذا الضمير قالت: "أعتقد أن الرواية المكتوبة بضمير المتكلم أكثر من مجرد عبء على كاتبها. إنها باب عريض لاتهام الكاتب أو تجريمه، ونافذة ضخمة لدخول رياح الشك! يجد مؤلف الرواية نفسه مُدان بارتكاب أحداث الرواية، ربما يغدو ضحية يتعاطف معه القراء، أو جلاد وظالم كلما رأوا غلاف الرواية أو سمعوا اسمها! ولهذا أرى أنه على كاتب الرواية أن يكتب بشجاعة وذكاء ولا يبالي بما ستؤول إليه أحداث روايته وإلى أين سيصل شك القراء." وأضافت: "بالنسبة لي، روايات الضمير المتكلم أصدق رغم أنها أبعد ما تكون عن الحقيقة، وأقرب للنفس رغم أنها مؤامرة كلمات حُيكت بليل التأليف! الضمير المتكلم من شدة إقناعه يعترف بكل قصصه وجرائمه علناً، لا يخاف الاتهام، ولا يهاب الأقدار! حتى حينما يبالغ ويكذب وربما يشوه الحقائق ويضع نفسه موضع التعاطف، أصدقه، وأسامحه على ارتفاع منسوب المبالغة! أحب قراءة الروايات التي يرويها ضمير المتكلم، كأن المؤلف يختصني بهذه الأسرار علناً على مسمع الورق! ثم ما فائدة القصص إن لم تُرو بالضمير الذي يكاد يقول صدقوني! وكيف يستطيع خيال الكاتب أن يُبدع ويحلق عالياً إن لم يتلبس قضية الرواية/القصة ويتوهم هو نفسه قبل القراء أنه بطل الأبطال، والفارس المغوار، صاحب المعاناة، الضحية الكبرى، والمظلوم الأول." وخصّت القرشي في ختام حديثها القارئ، قالت: "أؤمن أن القارئ الذكي، المُتصالح مع أقدار الآخرين وحيواتهم، لن يسأل نفسه بينما يقرأ رواية كُتبت بضمير ذات المتكلم: هل هذه قصة الكاتب؟ أم أسرار الكاتبة؟ لأن ما يحدث في الرواية يبقى على أرض الرواية، تمضي الأحداث بقانون السرد، وتعيش الشخصيات في عالم الورق، ويموت الجميع ولو بعد حين في مقابر الحبر! ثم ماذا سيضيف القارئ إلى معرفة القراءة الهامة بالدرجة الأولى إن عرف أن أحداث الرواية تتقاطع مع حياة كاتبها؟ ربما يزيد من كمية التعاطف، إلا إن كان قارئاً لديه رغبة بالتقصي البحثي، ومصاب بمرض تتبع الزلّات، فهذا من باب أولى أقترح ألا يقرأ روايات الضمير المتكلم.. عاملًا بنصيحة صديقنا أمبرتو إيكو في هذا الموضوع: "العوالم السردية/ التخييلية هي بالتأكيد طفيليات داخل العالم الواقعي."" وأما الكاتبة ابتسام المقرن فقد ركزت حديثها حول الأعباء المترتبة على نصوص الضمير المتكلم وقالت: "ربما تشكل عبئًا من ناحية النقاد والقراء الذين يخلطون بين البطل والراوي، ويبحثون عن كل ما يربط بين النص وصاحبه، فتجدهم يتابعون كل ما يكتبه في الشبكات الاجتماعية أو يقوله عبر اللقاءات مثلًا في محاولة منهم لإيجاد هذا التطابق، وهل ما أورده في عمله الروائي يرمي إلى أنه حدث له شخصياً أم لا. وكل ما نجحت الرواية في الوصول إلى أعماق القراء، كلما كان هذا دافعًا للبحث عن تطابق أحداثها مع الروائي." وأكدت "المقرن" على أن البطل قد يكون هو الكاتب أو جزء منه "متى ما تواجدت داخل النص معطيات: كالمدينة، والعمر، ومكان العمل أو طبيعته مثلا. فضمير المتكلم –برأيي- في هذه الحالة ليس سوى "شاهد" على الأحداث ونقلها لنا بدقة." واختتمت حديثها: "ضمير المتكلم" يجعلني أنسجم مع المكتوب والقرب من بطل النص وكأنه يكلمني بشكل مباشر، وأشعر أن الرواية تتخذ شكل البوح الحر الذي يصلني بسلاسة..." تحقيق - جابر محمد مدخلي حسين الأمير إبراهيم مكرمي د. أسماء الأحمدي عهود العبدالكريم القرشي