من أعظم الفرص التي ينالها الإنسان: أن يُعطى يوماً آخر في حياته. فكيف إن أُعطي يومين أو ثلاثة؟ بل كيف إن أعطي أياماً معدودات كشهر رمضان الذي فيه ليلة خير من ألف شهر؟ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:(اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناءك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك). فالوقت الذي هو عبارة عن أيام قد تكرر في الحديث (شبابك.. فراغك.. حياتك)؛ بيان لفضيلته، وتأكيد على أهميته، وأنه فرصة ثمينة يجب اغتنامها، بل كل ما ذكر إنما هو متضمن في قوله: (حياتك). وما الحياة إلا كما قال الشاعر: "دقات قلب المرء قائلة له ** إن الحياة دقائق وثوان"، وكما قيل: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، إذا ذهب يومك فقد ذهب بعضك". ومن اغتنم هذه الفرصة الثمينة نال الخيرية في زمانه، وكان المقدم على أقرانه، ولهذا كما في الحديث: (خَيرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمُرهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ)، وحديث آخر بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم لمن تعجب وتساءل: كيف للمجتهد في العبادة والشهيد أن يسبقه في دخول الجنة قرينه الذي أسلم معه ومات بعده بسنة ولا يعرف باجتهاد في العبادة ولم يمت شهيدا؟! عجبوا من ذلك لرؤية صادقة. فبلغ ذلك رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقال: (من أيّ ذلك تعجبون؟!) قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد اجتهادا، ثم استُشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله! فقال: (أليس قد مكث هذا بعده سنة؟)، قالوا: بلى، قال: (وأَدرك رمضان فصامه؟)، قالوا: بلى، قال:(وصلى كذا وكذا سجدة في السّنة؟)، قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلَمَا بينهما أَبعد ما بين السماء والأرض). وقد أحسن علماء النحو إذ أطلقوا على إعراب اليوم (ظرفاً). فاليوم كالظرف الذي ندخر فيه الودائع وما يستفاد منه إلى حينه، غير أن اليوم ندخر فيه ما نحن صانعون فيه من كل شيء مفيد أو غير مفيد، بل إذا أغلق هذا الظرف نهاية اليوم فلن يفتح أبدا، فليس لنا إلا اغتنام ظرف آخر جديد إن قدر لنا، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. فما نحن صانعون في يومنا الثمين؟ وماذا سندخر في ظرفنا الجديد؟ وماذا أعددنا لليوم الذي لا ينفعنا فيه إلا ما ادخرنا فيه من العمل الصالح، بل يضرنا ما ادخرنا فيه من العمل السيء؟ وهلّا اغتنمنا هذه الفرصة الثمينة التي لا تعوض أبدا؟ واعلم أن أعظم ما يفعله الإنسان في يومه، ويدخره في ظرفه، ويتقرب به إلى ربه: ما افترضه عليه، كما في الحديث القدسي: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه). فأول ما نطيع الله به ونلتزمه من العبادة التي خلقنا لأجلها: القيام بالفرائض وأداء الواجبات، وترك المحرمات والابتعاد عن المنهيات. وقد أحسن من وصف العبادة بأنها: "أن يجدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك". واعلم أن من أعظم ما تحمي به الفرائض، ويكون سياجا حولها، وحماية لها من التهاون أو الترك: النوافل، وإليك الشطر الثاني من الحديث القدسي السابق: (وما يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ، فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وما تَرَدَّدْتُ عن شَيءٍ أنا فاعِلُهُ تَرَدُّدِي عن نَفْسِ المُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ المَوْتَ، وأنا أكْرَهُ مَساءَتَهُ). ثم أعلم أن من أعظم الأسباب التي تضيع عليك اغتنام يومك الثمين، وتثبطك عن الفرائض، وتعجزك عن النوافل: ارتكاب الذنوب والتهاون بالسيئات، واحذر الذنب المتصف بأمرين -أحدهما أو كلاهما-: الإصرار، والمجاهرة. واعلم أن من عظم هذه الفرصة الثمينة اليوم، وأنها بحق لمكسب عظيم، ومغنم كبير: أن الذي ضيع اغتنامها فيما مضى، إما بترك مأمور، أو بفعل محظور؛ فبإمكانه التدارك ما دام قد أعطي الفرصة مرة أخرى، والانضمام لتلك الفئة التي تاجرت مع الله باغتنام هذه الفرصة الثمينة، ويكون هذا التدارك والانضمام بالتوبة والرجوع إلى الله، ولربما كان الإنسان بسبب التوبة من خير المتاجرين والمغتنمين لهذه الفرصة الثمينة. إن كل ذلك يجعلني أقول: إن اليوم الواحد فرصة ثمينة بحق، فلنعطها حقها، ولنقدرها قدرها، قبل فقدها، وفوات غنمها، قال الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ}. أسأل الله لي ولكم التوفيق لما يحبه ويرضاه. حمدون الأنصاري