للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجان تستحق أن تروى، "الرياض" تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف الأديب: القاص والروائي إبراهيم مضواح الألمعي حول مكتبته الغنية بأمَّهات الكتب في مختلف فنون المعرفة، وإن غلب عليها طابع اللغة والأدب، متميزةً بغزارة المحتوى، وجمال التنوع، ما بين الأدبي واللغوي، والديني والتاريخي، والعلمي، والفلسفي، والكثير من الكتب المترجمة عن لغات الشرق والغرب، والنوادر؛ التي اقتنصها من بين يدي باعة الكتب المستعملة، كما توجد الكتب التراثية والمعاصرة، والحديثة؛ ما بين النثر والشعر، والسرد والسير الذاتية. اقتناها كتاباً كتاباً، فكثيراً ما تجد على طرة الكتاب مكان وتاريخ شرائه، وتاريخ قراءته، إضافة إلى تعليقات وإحالات، ونقدات وانطباعات، فتعلم أن صاحب المكتبة قد عاش معها واقترب منها وناجاها، ثم تنظر إلى طريقة تصنيفها فتجدها قد وزعت على نحو يضمن له معرفة موقع الكتاب دون عناء، وكثيراً ما تجد مؤلفات الأعلام منظومة تحت أسمائهم. في أيِّ مرحلة من العمر تعرَّفتَ على الكتاب؟ * في المرحلة الابتدائية قرأت قصصاً مصورة في مكتبة المدرسة، وأتذكر منها: «حكايات من التاريخ» للشيخ علي الطنطاوي، ولا أنسى المروءة التي تحلَّى بها بطلا قصة «جابر عثرات الكرام»، ثم استمرت قراءاتي غير المنتظمة، تبعاً لتوفر كتاب لافت، أو مصادفة عابرة، وأتذكر مما صادفني في تلك المرحلة وقرأته «ديوان عمر ابن أبي ربيعة»، وبالتأكيد أنني لم أفهم إلا القليل مما قرأت، وتصفحت مختصراً لكتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، وقرأتُ قليلاً من صفحاته بدهشة، ثم قرأت فيما بعد أن أكثرها مبالغات وخيالات. حدثنا عن أوائل الكُتب التي دخلت مكتبتك؟ وكيف بدأتَ تأسيس مكتبتك المنزليِّة؟ * كانت نحو عشرة كتب لأبي؛ منها خطبة «الحكمة البالغة»، وعددٌ من كتب المواعظ، والمنظومات، فالوالد مُعَلِّمُ كُتِّاب قديم، وإمامٌ وخطيبٌ لمسجد القرية، ثم ترقَّت مكتبتي حين ضممتُ إليها كتباً تسلَّمها أخي «عبدالله» جائزة لتفوقه في المعهد العلمي، أتذكَّر منها مختصر تفسير ابن كثير في ثلاثة مجلدات؛ ضممتها إلى مكتبتي؛ التي أنشأتها من خلايا نحل «عبارة عن صناديق مربعة» صَرَفَتْها وزارة الزراعة لأصحاب النحل، ولم يكن الوالد ليستبدل بعيدان النحل التقليدية المصنوعة من جذوع الأشجار صناديق خشبية مربعة، فرتبتها فوق بعضها، على هيئة رفوف وصنعت منها مكتبة، ولم يعترض أبي؛ لَمَّا رأى الكتب موزعة في الصناديق على شكل يحمي الكتب من التلف، ويحفظها من الضياع. وقد كان تسامحه مع عبثي بخلايا النحل حافزاً على الاستمرار. ثم صارت الكتب تؤول إلى مكتبتي الخاصة بالسطو السِّلْمي، فكنتُ أضم إليها كلَّ كتاب يدخل بيتنا عن طريق أيٍّ من إخوتي، وقد كانوا يتغاضون عن هذا الاستحواذ، لأنهم وجدوا في ذلك حفظًا لكتبهم، ولن يشق عليهم انتزاعها عندما يشاؤون. ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * انتظمت في زيارة معرض الكتاب مذ كان يُقام في جامعة الإمام في الرياض، ثم تابعته فيما بعد بين الرياضوجدة وأبها، ومقتنياتي من المعارض مصدر مهم من مصادر نماء مكتبتي. فالمعارض بدأت تستقطب دور نشر خارجية؛ ما بعث عليّ الدهشة، والرغبة في اقتناء ما لن يُتاح في غير المعارض. ولذلك فقد كنت أرصد ميزانية لزيارة المعرض، ولا أتوقف عن الشراء إلا حينما ينفد ما بيدي من مال. ما أبرز المنعطفات التي رافقت نموَّ مكتبتك المنزليِّة؟ * في أوائل عام 1998م، عثرتُ في إحدى البقالات التي تبيع الصحف والمجلات على عدد من مجلة كويتية اسمها «قرطاس»، تصفحتها فاكتشفت أنها تصدر عن مكتبة كويتية، تحمل الاسم نفسه، تُعرِّف بآخرِ الكتب الصادرة بالعربية والمترجمة، والمتوفرة في دار قرطاس، ومراجعات مطولة وأخرى قصيرة للكتب. لم تكن أثمان الكتب موضحة، فسجَّلت قائمة بالكتب التي أرغب شراءها؛ مستفسراً عن ثمنها، لأحوِّل لهم الثمن، ومن ثمَّ يبعثوا لي الكتب، كما أبلغتهم نيتي الاشتراك في المجلة. وكانت المفاجأة أن القائمين على الدار اعتمدوا اشتراكي في المجلة، وأرسلوا لي عبر البريد أعدادها السابقة، والكتب التي سَجَّلْتُها، وفاتورة بثمنها، وقيمة الاشتراك، فوقعتُ أسيرَ هذه الثقة والتعامل الراقي، وتابعتُ المجلة، وقد كانت تصدر أسبوعيًّا، ثم أصبحت شهرية، ثم فصلية؛ وصرتُ أبعثُ العناوين، بعد الاطلاع على الجديد في كل عدد، وتأتي الكتب والفاتورة؛ كأحسن ما يكون التعامل، فوفِّقْتُ بذلك لتزويد مكتبتي بأهم الإصدارات وأحدثها، التي لم تكن تتوافر في المكتبات التي أطوف عليها؛ حينذاك. ما ثمرة وجود المكتبة المنزليِّة؟ * المكتبة في البيت حديقة مليئة بالأزهار والثمار، تمنح صاحبها عالماً خاصاً، وتغني عن فضول الاختلاط، فهي بهجة وفسحة، تُشْعِرُ بالتواصل المعرفي مع الأجيال ومع الأوساط الثقافية، عبر منجزاتهم المعرفية، كما أن مجاورة الكتب حافزٌ دائمٌ على الاطلاع والإنجاز، وتنبه الإنسان إلى قيمة إنجازه مقارنة بالمنجزات الثقافية للأدباء والمفكرين، وليعرف أين يقف، وماذا عليه أن يفعل ليترك أثراً ذا قيمة كآثارهم. والاقتراب من المكتبة يتيح للأسرة الاقتراب من مصادر المعرفة، ولا يخفى أثر ذلك من إجلال العلم، وتقدير العلماء، والمبدعين. هل تحتفظ في مكتبتك بمخطوطات؟ * كان وما زال اهتمامي بالكتب التي أقرأها للمتعة أو للتعلم، أو للبحث فلم يخطر لي تتبع المخطوطات، أو العناية بها، فلم تضم مكتبتي سوى مخطوطة لصفحات من القرآن الكريم؛ لا يُعرف كاتبها، عثرتُ عليها ضمن كتب قديمة للوالد. ماذا عن نصيب الكُتب القديمة والنَّادرة؟ * تضم مكتبتي الطبعة الأولى لعدد من الكتب الصادرة في النصف الأول من قرن العشرين، وأعداد من الرسالة الصادرة في الثلاثينات، والأعداد الأولى من مجلة «العربي»؛ من أواخر الخمسينات والستينات والسبعينات، والأعداد الأولى من مجلة «القصة القصيرة»، التي أصدرها محمود تيمور عام 1964م. وأعداد مجلة «قرطاس» الكويتية. وغيرها من الفرائد التي ظفرت بها عن طريق باعة الكتب المستعملة في القاهرة. هل يوجد في مكتبتك كُتب مُهداة بتوقيع مؤلفيها؟ * نعم كثير من الإهداءات، من المؤلفين الأصدقاء، والأساتذة، وغيرهم. وقد سئلت مرة عن أثمن الإهداءات التي تلقيتها، فقلت: إنها كلمات كتبها أستاذي القدير الشاعر محمد الزيداني إهداءً على ديوانه: «من أشجان الغربة». بما أنك مُهتم بالكُتب ولديك مكتبة منزليِّة، ما أبرز الكُتب التي تحرص على قراءتها؟ * لأنني أقرأ بحريتي فلديّ فسحةٌ للقراءة في فنون عديدة، والنصيب الأوفى لكتب الأدب، وخصوصاً كتب السيرة الذاتية. هل ساعدتك المكتبة المنزليِّة على التأليف؟ * بلا شك، فالقراءات هي التي تأخذ بيد الأديب إلى الكتابة، وكون المراجع في متناول يد الكاتب فإن ذلك يفتح له دروباً لاجتراح الكتابة، والنظر في المصادر عن قرب. كم بلغ عدد مؤلفاتك حتى الآن؟ ومتى صدر لك أول كتاب؟ وما هو؟ * بلغت مؤلفاتي ثلاثة وثلاثين كتاباً؛ وأولها كتاب: «من طيبات أبي الطيب»، الذي انتخبت فيه مقاطع وأبياتاً من روائع المتنبي، مع شرحها، والتعليق عليها، وصدرت طبعته الأولى عام 1997م. هل تستفيد أسرتك من مكتبتك في الاطلاع وإعداد البحوث؟ o أجل؛ مع أن ذلك قلَّ مع بروز البدائل الإلكترونية، ومحركات البحث، غير أنني ألمس اعتزازهم بالكتب، وقضاء بعض أوقاتهم قريباً منها، حتى لو لم يكن بغرض القراءة في بعض الأحيان. هل طرافة الكتاب أو طرافة موضوعه من معايير انتقائه؟ * بالطبع؛ فالمتعة من دوافع الاقتناء والقراءة، لتكون فسحةً بين القراءات الجادة. ولأنني مؤلف فإنني أدرك كيف يكون اختيار العنوان شاقاً، وكيف يكون جزءٌ منه إلهاماً، ولذلك فإن العنوانات والموضوعات مؤثرة تأثيرًا بَيِّنًا في اختيار الكتاب؛ ويصبح السؤال في كثيرٍ من الأحيان: كيف كتب المؤلف؟ عوضاً عن السؤال التقليدي: ماذا كتب المؤلف؟. هل يوجد من قراءاتك كُتب لا تزال عالقة في الذهن؟ وما أسلوب الكاتب الذي يعجبك؟ o لا بُدَّ أن يعلقَ بذهنِ القارئ كثيرٌ مما قرأ ولهذا هو يقرأ، وتعجبني الأساليب الرفيعة من قبيل كتابات الزيات، وطه حسين، والطنطاوي، وغازي القصيبي، ولا أهمل شيئاً مما كتبه هؤلاء الكُتَّاب الكبار، وأعيد قراءة بعض كتبهم مرات عديدة، وفي كل مرة أجد متعةً جديدة. ماذا تُفضل.. المكتبة الورقية أو الرقمية؟ وما السبب؟ o نحن جيل نشأ على الكتاب الورقي، ولذلك فإن القراءة الممتعة والنافعة بالنسبة لي هي قراءة الكتاب الورقي، وحين لا يتوافر إلا في نسخة إلكترونية فإنني أطبعه ورقيًّا، وأغلفه وأقرأه، ثم أضُمَّه إلى مكتبتي، فيما عدا إذا كانت القراءة بغرض البحث عن معلومة أو اقتباس نص، أو مراجعة مسألة، فإن الكتاب الإلكتروني يفي بذلك. هل مكتبتك متخصصة أم متنوّعة؟ o أعدُّ نفسي قارئاً حُرًّا؛ أقرأ ما أحتاج إلى معرفته، وما يمتعني، فمكتبتي متنوّعة، تضم رفوفها كتباً في شتى فروع المعرفة؛ بنسبٍ متفاوتة، تغلب عليها كتب اللغة والأدب، من رواية، وقصة، وسير ذاتية، وعموم كتب الأدب القديم، والمعاصر. هل تقتني الكتاب من خلال توصيات أو بانتقاء شخصي؟ o التوصيات مُهمة، وتأتي من خلال قارئ موثوق في تقويمه، أو مراجعة في مجلة أو برنامج إذاعي أو تلفزيوني، وكلما تقدَّم الإنسان في العمر والقراءة والتجربة غلبَ عليه الانتقاء الشخصي. ما رسالتُك التي توجِّهها لكلِّ من يملك مكتبة منزليِّة؟ o وجود مكتبة منزليِّة كبيرة له تبعات ومتاعب تحتاج إلى صبر، فهي تستدعي رعاية وعناية وصيانة، كما أنها تنمو وتتسع، وتحتاج إلى توفير مكان، قد يكون أحياناً على حساب احتياجات الأسرة، ويبقى السؤال المُمِضّ لكل صاحب مكتبة: ما مصيرها بعد رحيله؟!، وهو سؤال مُلِحٌ غائرٌ في القلب، كثيراً ما تترك إجابته للمستقبل غير المنظور لصاحب المكتبة. كلمة أخيرة: o الشكر لكم أستاذ بكر هذال على هذا اللقاء اللطيف، حول جانب مهم في حياة الأديب؛ وهي مكتبته، والشكر كذلك للقسم الثقافي في جريدة «الرياض» الغراء. إبراهيم مضواح الشيخ علي الطنطاوي أحد الكتب المُهداة للضيف الإصدار الأول للضيف من المخطوطات التي تضمها المكتبة