بداية من سنة (1798م /1213ه) شهدت منطقة الحجاز الكثير من التوتر السياسي والعسكري، وتعرضت لسلسلة من التقلبات الاقتصادية السلبية، فبدأت وعلى التوالي إرهاصات المجاعة والشح في الأقوات في التبلور والنمو، لعدد من الأسباب مجتمعة أو متفرقة، ففي هذا العام غزت القوات الفرنسية مصر، مما أثر على تجارة البحر الأحمر، والتجارة المشرقية عامة؛ لتضييق القوات الفرنسية على تجارة الهند الخاضعة للنفوذ البريطاني من خلال استهداف أساطيل شركة الهندالشرقية، مما أعاق وصول البضائع والأقوات لموانئ البحر الأحمر، والتي كانت مكة تعتمد عليها إلى حد كبير خاصة في مواردها من الحبوب، وضروب التجارة الأخرى، حتى أنه عند لقاء الكابتن جون مالكوم البريطاني بسلطان مسقط حذره من الهيمنة الفرنسية قائلاً له: "إن الأمة الفرنسية لا تحترم القوانين، فاستولت على مصر وهيمنت على الطرق المؤدية إلى المدينتين المقدستين"، وتشير بعض المصادر إلى ممارسة القوات الفرنسية القرصنة على السفن المارة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، وانتشرت شائعات تفيد أنهم ينوون الاعتداء على المدينتين المقدستين، ومما زاد في انتشار الشائعة وحدتها أن الصدر الأعظم للسلطان العثماني طلب تحصين ميناء جدة بالاستدانة من التجار؛ لعدم قدرة الدولة على مساعدة أو نصرة الموجودين بها، أي أنها تركتهم لمواجهة مصيرهم، اعتماداً على أنفسهم حتى أن المؤرخ عبدالشكور يقول عن ذلك: "طُلب منهم النجدة والإمداد فما يزدادون إلا نوما وسهاد، ولسان حالهم يقول لو كان السلطان هناك لأنجد، فلا ترجو المدد إلا من الواحد الأحد". ومما زاد الضغط مرور الأساطيل العسكرية البريطانية والتركية ومن حالفهما في حربهما ضد فرنسا، على موانئ الحجاز للتزود منها بالماء واللحوم والأغذية المتوفرة والمؤن، وعلى سبيل المثال: "نقل من ميناء جدة سنة 1216ه/ 1801م، في يوم واحد للمراكب الإنجليزية خمس مئة من النوق والجمال والخيل والبغال"، وذلك فقط في يوم واحد، وفي جدة فضلاً عن الموانئ الأخرى، وبمعنى آخر فتحت الموانئ البحرية في البحر الأحمر للأساطيل الإنجليزية، فكانوا وبأمر الحكومة العثمانية يتزودون بكل ما يحتاجون إليه، ناهيك عن غيرها من السفن المارة بهذه الموانئ متجهة بعدها إلى مصر في حربها مع الفرنسيين، مما تسبب في رفع الأسعار وشح العملة، وانقطاع البضائع، وتوقف الحج القادم من مصر وأفريقيا، وتوقف ورود الكسوة، فلم يصل الحج المصري بعد الغزو الفرنسي إلا سنة 1216ه /1801م، وداخلياً قامت بينه وبين الحج الشامي فتنة في مشعر عرفات التحم فيها الطرفان، وفي نفس العام قامت فتنة في جدة بين الحامية التركية وعسكر الشريف غالب قتل فيها عدداً كبيراً من الفريقين، مما يعني أن الأمور تسير من السيئ إلى الأسوأ، وأن القيادة الموجودة في الحجاز قيادة واهنة، لم تستطع ضبط الأمور، وزادها وهنا ضعف إمداد ومساعدة الدولة العثمانية لها، يضاف إلى ذلك تتالي الحروب بين الشريف غالب والقوات السعودية التي كانت لها الغلبة والقوة، ولم تأت سنة 1220ه، إلا وكانت تلك القوات محيطة بمكةالمكرمة، في وقت تخلى فيه عن الشريف غالب أقرب مناصريه، ولم تستجب حامية الحج الشامي له حين طلب منها البقاء في مكة. لعل التمهيد السابق يعطينا فكرة بسيطة وسريعة عن مدى تدهور الوضع الاقتصادي والأمني، في مكةالمكرمة، وكيف ألقت تلك النزاعات بظلالها عليها في السبع السنوات السابقة التي بدأت من 1212ه /1798م، وأن المجاعة ونقص الأقوات أصبحت قاب قوسين أو أدنى من أهلها، وأن السنوات المنصرمة تلك، كانت سبع عجاف، تسارعت فيها الأحداث، وروع فيها الأهالي، ونفذ فيها المخزون في الأسواق (وشُوَن) الغلال من كل طعام، وانعدم فيها الأمن. لتهلَّ سنة 1220ه /1805م، ومكة محاصرة من الجيش السعودي، وهنا أتوقف قليلاً، فمكة منهكة، وقوات الشريف أصبحت لا تتجاوز المئات الخمس، والمجاعة بدأت إرهاصاتها قبل الحصار بعدة سنوات، والأمن شبه منعدم، وفي نفس الوقت يقول عبدالشكور إن الجيش السعودي يتجاوز الثلاثين ألف مقاتل، وربما يصل إلى الخمسين ألفاً، توزعوا حول مكة، في مناطق تبتعد عن مكة بين (30-100كم )، أي أن بإمكان هذا الجيش أن يفتت الحامية الموجودة في مكة في أقل من الساعة على أكثر تقدير، بل عندما اقتربت سرية لا تتجاوز العشرين من خيل الجيش السعودي إلى المعابدة لم يتصدى لها أحد، ولم تجد أي مقاومة تذكر. والاسئلة التي تطرح نفسها: لماذا لم يتقدم الجيش بقيادته إلى مكة، برغم كل الإمكانيات البشرية والعسكرية التي يمتلكها؟ ولماذا أبقى الإمام سعود بن عبد العزيز جيشه قريباً من مكة بعيدا عنها؟ وكيف حاصر مكة وفي الوقت نفسه حماها من فورة الجنود وسطوتهم، وكيف كبح جماح تهورهم؟ نجد جواباً عن ذلك في إشارة غير مباشرة من المؤرخ عبدالله عبدالشكور سردها لبيان تأثير الحصار على السكان حيث يقول عند وصفه حصار مكة من قبل القوات السعودية: "هرعت الناس إلى الحسينية، وتسابقوا إليها خوف المنية، لأن الأقوات بها رخية وموجودة على تلك الأسعار المعهودة، فصاروا يذهبون إليها نساءً ورجال"، ولعل هذه الجملة تبين لماذا لم يدخل الجيش السعودي مكة واكتفى بحصارها وعن بعد فقط، فمن الواضح جداً أن الجيش السعودي كان يريد إطالة أمد الحصار، ويبقي بعيداً قريباً، حتى يتسنى له دخول مكة سلميا دون قتال، حفاظاً على قدسية مكة، فالحسينية قرية زراعية تقع جنوبمكة -هي الآن ضمن أحياء مكةالمكرمة- وهي من أقرب القرى المكية إلى الطائف، وكانت تشتهر بزراعة الخضروات وبعض من النخيل، وبها عين كبيرة، وقد نزلها الجيش السعودي بقيادة عثمان المضايفي وجيشه الذي تكتل وتجمع في تلك المنطقة، مع مجموعة كبيرة من القادة العسكريين المنضمين للقوات السعودية من مناطق أخرى، وأتباعهم من الافراد، ربما تتجاوز الثلاثين ألفاً، وهنا تكمن المعلومة التي لم تشر إليها المصادر وإن كانت تشير إليها الدلائل والمنطق التاريخي، فمن الواضح أن الحسينية تهيأت لاستقبال المدنيين الخارجين من مكة حرصا على عدم هلاكهم جوعا، كما أنه ومن الواضح جدا أن الأغذية والأقوات والميرة جلبت إليها بتخطيط من الجيش المحاصر، من داخل الجزيرة، ومن مناطق نفوذ الدولة السعودية، حين عزَّت الأقوات وانقطعت من خارجها، فالموجود بهذه القرية من الزراعة منطقياً لا يكفي الجيش والنازحين إليها، أي أن الحصار لم يقصد به إنهاك السكان وتعريضهم لمجاعة، أو ترويعهم، إنما المقصود تسليم الحامية العسكرية الموجودة بها صلحاً، حتى لا تراق الدماء ولا تستباح حرمة مكة، وتأمن أم القرى وأهلها، وبذلك تكون سياسية القيادة السعودية في تلك الفترة، تجمع بين القدرة العسكرية الظاهرة، وأدبيات القتال، وحفظ الحرمة، فهي تحاصر مكة من كل الجهات وتسمح للراغبين في الخروج منها بالخروج، بل وترشدهم إلى الوجهة الصحيحة، وتحميهم، وتؤمن لهم المسالك، لذلك نجد عبدالشكور يقول بعد ذكره هذه الحادثة بعدة أيام، وعند تسليم مكة: "فدخل بعض من أهل مكة الذين خرجوا للحسينية، وتنازلت الأسعار، واطمأنت القلوب بهذا المقدار، وجلبوا معهم الميرة، وفرج الله تعالى على المسلمين تلك الشدة"، وبصيغة أخرى فإن من جلب الميرة والأقوات، وجمعها في مكان واحد وأرشد السكان حتى يخرجوا إليها، ثم يعودون بها إلى مكة، هو الجيش المُحَاصِر للبلد، محافظا بذلك على أدبيات الحرب، وقدسية مكة كما سبق القول، وانقضى حج سنة 1220ه، ولم يحصل فيه شدة أو غلاء، ولم يختل بمكة الأمن، رغم الأعداد الكبيرة التي حجت في تلك السنة. لننتقل إلى سنة 1221ه/1807م، وذلك بعد انضمام مكة للمنظومة السعودية، لنجد الرحالة (دومينجو باديا إي ليبليش)، أو كما يسمي نفسه (علي باي العباسي)، يحج إلى مكة ويصف أوضاعها، فهي ساكنة لا أثر للحرب بها، والأمن مخيم عليها، رائجة الأسواق، والأسعار فيها معتدلة، ويصف تعامل أفراد الحامية السعودية الموجودة في مكة، وبساطتهم: "شاهدت طابوراً مكوناً من خمسة إلى ستة آلاف رجل، لم يكونوا يحملون رايات ولا طبولاً ولا حتى علامات عسكرية، وكونوا تجمعات منظمة للدخول إلى البيت الحرام من باب السلام، ولا يمارسون السرقة، أو يستخدمون القوة المسلحة أبدا، وأي خدمة يتلقونها يدفعون ثمنها بعملتهم، وإذا لم يجدوا يقايضون ببعض البارود من حشو بنادقهم، وبعضهم يدفع الثمن بحبوب البن، ويجب أن أعترف أنهم كانوا معتدلين في حوراهم مع من يتحدث معهم". ولابد أن نعلم أن هذا التنظيم العسكري، ودخول الحرم بهذه الطريقة المنظمة، لم يكن وليد صدفة، إنما نتيجة لجهود بذلت وقيادة أحكمت، لحفظ البقعة من أي تسلط يخل بالقدسية والأمن في هذه البقعة، وانتهت الحرب وانتهى الحصار، ولم تراق في مكة قطرة دم. وعندما حلَّ موسم الحج التالي كان علي باي ضمن الحجاج، وذكر أن الإمام سعود وفر ضمن أعماله الإصلاحية عدداً من خزانات المياه للحجاج للاستقاء أو الاغتسال عند جبل عرفات، كما جهز قافلة من الف جمل لحمل الماء واحتياجات الجيش، ويبدو أن الغرض من ذلك عدم مزاحمة أفراد الجيش للحجاج، على موارد السقيا. كما يقول: "بالرغم من وجود أكثر من أربعين أو خمسين ألف بندقية فإننا لم نسمع صوت أي طلقة رصاص سوى طلقة رصاص صدر صوتها على مسافة قريبة مني لكن سرعان ما جاء أحد قادة سعود وعنَّفَ من أطلقها، قائلاً بكل جفاء ممزوج بكل رقة: لماذا أطلقت تلك الطلقة ؟ هل جئنا لنشارك في حرب؟". ومن لم يقرأ التاريخ المكي، وأحداث الحج خلال العصور السابقة، قد يستغرب العبارة التي أوردها علي باي، فهل يحدث قتال في الحج وعلى مشعر عرفات؟ وللأسف فإن الإجابة في غالب الأعوام نعم، خاصة مع تعدد المحامل والرايات، وأمراء الحج، والحاميات التي تصاحب المحامل وحجاج الآفاق، والانكشارية المرابطة في مكة، حيث كان مشعر عرفات، وأرض منى، ووادي مكة، معتركا سنوياً إلا في النادر جدا لتلك الحاميات، وكل يتعصب لفريقه، وربما خرج الناس من المشاعر قبل إتمام مناسكهم، والشواهد على ذلك أكثر من الحصر، وتبعا لهذه الفوضى، وانشغال المكلفين بحماية الحجاج إلى محاربين لبعض، كان الأمن يختل، وتقطع الطرقات على قوافل الحج، ومن التعبيرات المتوارثة قول المكيين لبعضهم عند الرغبة في الحج (اللهم أجعله حج ونجا) فالراغب في الحج في ذلك الزمن، كالذاهب إلى معركة قد لا ينجو منها. نلحظ أيضا أن الإمام سعود بن عبدالعزيز -وهذا أمر تفرد به عمن قبله- كان ينزل وحاشيته ورجال جيشه في (قصر البياضية) في حي المعابدة، فكان القريب البعيد، فالمعابدة على قربها من مكة إلا أنها كانت منطقة خالية من السكان، تفصل بينها وبين بيوت مكة وأسواقها التي كانت لا تتجاوز حي شعب عامر ومقبرة المعلاة، مساحة شاسعة من الأرض الفضاء، ويحيط بقصر البياضية، سهل فسيح يكفي لتخييم ضيوفه وقادة الجيش وتابعيهم الواردين إليه من المناطق التابعة له في الجزيرة، ويقيمون خيامهم في ذلك السهل، ويبدو أن اختياره ذلك المكان كان يجعله قريبا بعيدا، فهو قريب من مكة يتوجه إلى الحرم يومياً، ويصلي الفجر وبقية الفروض بها، إلا أنه بعيد عنها بعسكره، فهو بذلك يستطيع تنظيمهم والسيطرة عليهم وتفويجهم بجنودهم للحرم دون المساس بأهالي مكة والحجاج الواردين إليها، ويحافظ من موقعه على استقرارها الأمني، والاقتصادي، متجاوزاً بذلك الأزمات التي كانت تعصف بمكة في القرون الماضية بوجود العسكر والحاميات الانكشارية وسط الأحياء السكنية، بل وصلوا في بعض الأحيان أن يقيموا ويعتصموا بأروقة وحصوات الحرم. * باحث في تاريخ مكة المكرمة