تعد رواية "فم يملؤه التراب" للكاتب برانيمر شيبانوفيش، الصادرة عن دار أثر، التي ترجمها بكفاءة واقتدار الروائي أحمد الويزي، عملا تخييليا مدهشا، وتحفة أدبية متكاملة الأوصاف، لما تحمله بين أسطرها من أبعاد ومواقف "فكرية وفلسفية"، رغم هيمنة فكرة الموت على أحداث الرواية، التي لا تعرف أين تبدأ ولا لماذا انتهت تلك النهاية، كل ما يخطر في بالك هو أنك تسابق وتطارد الأحداث كالمطاردين فيها. تأخذك في حديث الذات وكأنك تعيش في داخلها، تترك لك تساؤلات كثيرة، تفسيرها يعتمد على ما بداخلك من صراعات، وقوى تود الهروب منها وإليها، لتجد الراحة والسكينة. ولكن حين يصبح الوجع ثقيلاً للحد الذي يفقد المرء توازنه، والصدمة أقسى من طاقة الاحتمال، يهرب المرء من نفسه وأفكاره وقدره، كما حصل مع بطل الرواية الذي يعاني من مرض غير محدد نوعه في الرواية، فعندما كان نزيل أحد مستشفيات بلغراد، بلغ إلى علمه بأنه سيموت عما قريب، ليقرر العودة إلى مسقط رأسه، للبحث عن موت هادئ منعزل، "أن يختار بنفسه المكان والتوقيت الملائمين لموته، وكذا الظروف المواتية لذلك. لهذا، لن يسمح لأي شخص بتلويث اللحظات الأخيرة من حياته، عليه أن يحافظ على شرف موته، إنه بحاجة إلى أن يكون وحيداً، إنه يودع العالم، وهو هادئ البال، مطمئن، وصافي الروح والقلب، أن يودع هذا العالم عديم الشفقة والرائع معاً، الذي لم يتعلم التعرف عليه بكيفية جيدة، ينبغي أن يودعه بحب، لا بكراهية! فظل وهو منشغل بكل هذه الأفكار يركض بشكل سريع جداً، لأنه لم يعد يستمد قوته من التحدي، وإنما من أجمل وأعمق مشاعر اليأس، التي لم يسبق له أن شعر بها من قبل، مطلقاً". إلا أن قصة عودته ستتخذ بشكل فجائي شكل مطاردة غريبة ولا معقولة، دونما سبب واضح، كان الأمر قد بدأ بشخصين فضوليين فقط، لينتهي بقطيع كامل من المطاردين، انتهوا بتحميله إثم ظنونهم السيئة بل ومحاكمته وفق هذه الظنون التي اخترعوها فهو بلا شك إما مجنون أو مجرم خطير يجب الإمساك به، وخلال المطاردة تستحضر الشخصية قوة الصمود والمواجهة من خلال حكاية الجد الأعلى "يوكسيم" الذي لم يخضع لطقوس الموت، حيث أقدم على تكسير تابوته والتهام كمية اللحم المخصصة للمعزين، "إن لم تعد تقوى على التحمل، فحاول أن تعثر بداخلك على منبع قوة جديد، وأنت تفكر في شيء مهم! ردد في نفسه. فكر مثلا في السبب الذي جعلك تقرر فجأة، أن تبقى حيّا". في كلتا القصتين "فم يملؤه التراب"، و"موت السيد كولوجا"، يتسارع الإيقاع فيهما منذ البداية ويستمر بالتصاعد حتى يبلغ الذروة في نهايتها التي تمثلت بمشهد فلسفي، وهذا الإيقاع يشعرك بأنك قريب من شخصيات الرواية، فعندما نرى المشهد من جهة الهارب ثم نراه من جهة المطاردين في "فم يملؤه التراب"، يتم خلق حركة حية وكأنه مشهداً سينمائياً من خلال تناغم شخصيات الرواية مع تفاصيل مكان الحدث، كرائحة العشب والأرض وحفيف الشجر ولهاث البشر. في النهاية فقط سوف نفهم إلى أي مدى عاش فكرة الانتحار، وكم كان يتودد إليها، "أجبره التفكير في هؤلاء الذين يلاحقونه، على فتح عينه: بدا كمن يمعن النظر في عنان سماء لا تحد، لكن كان لا ينظر إلا داخل ذاته، في الواقع حينها تساءل: أنجوت؟ أثمة خلاص ما؟، لكنه لم يتحرك، بقي ممدداً فوق الأرض، هادئاً وراضياً عن نفسه، وقد وعى بأنه فعل كل ما في وسعه فعله، لأجل الخلاص: لم يعد هناك أي شيء يتوقف عليه الآن!".