تحكي رواية الكاتب الفلسطيني جمال ضاهر"وأضحى الليل اقصر"دار الآداب، بيروت 2005 عن الموت وتحلل الاجساد. انها رواية"عكس الاتجاه"بالنسبة الى الكلام السائد عن الموت والغيبيات، وتقلد بأسلوبها وصياغتها الاساطير القديمة، وتبدو كأنها نوع من سرد مسيرة الانسان مع مفهوم الموت عبر التاريخ والعقائد، لتلاحظ في النهاية ان الموت هو اولاً وأخيراً عملية تحلل ثم فناء، قبل اي شيء آخر. وكأنها نوع من عود على بدء في هذه المسألة، اي عود الى يوم لاحظ الانسان الموت وخبِر ما يفعله بالاجساد، فبحث عن طرق الخلاص منه وعن البقاء بعده. تسير الرواية ببطء شديد تعكسه اللغة التجريبية التي استعملها الكاتب، وأضفت الجمل الاسمية الانطباع بالثقل وبالرهبة وكأن نذيراً في الجو، أو كأن هناك ما يجثم على كل هؤلاء الناس الذين حكت عنهم. وهو ما جعل الرواية تقترب كما ذكرنا من صياغة الاساطير المترجمة عن اللغات القديمة، أو حتى من الاسلوب التوراتي في البداية. وقد صاغ الكاتب اللغة العربية بطريقة لا تدحض القواعد ولا تماشيها، مركزاً على اشعار القارئ بتثاقل الوقت والحوادث والاحساسات، عبر اكثر من شكل من اشكال الصياغة. فكرر المفردات في مواضع معينة كهذه"سارت. ببطء شديد شديد سارت..."، أو وظفها بما يلائم ايقاع الجمل كالآتي"مستعينة بثلاثة اطفالها وقفت..."أو استعمل المعنى البسيط الواضح الذي يحاكي الكلام المحكي العفوي، بتركيبة اعطته عمقاً ظاهرياً يترك وقعاً في نفس القارئ، كما نلحظ هنا"الرجل الممدد على طوله، حياً كان قبل موته بقليل، ككل الأحياء على وجه البسيطة"، ولكنه في النهاية، لا يحمل مغزى عند التمعن به غير مغزى التجريب، الذي يمنح الرواية لغة مألوفة وغير مألوفة في الوقت نفسه. تتقاطع في الرواية حكايات كثيرة مستمدة من مصادر مختلفة، تؤلف بمجموعها جزءاً من القصص الديني المتعدد. فهناك الحِكم البوذية وما يشبه قصة اهل الكهف والروايات التوراتية المعروفة، ولكنها في النهاية ليست اياً من هذه الحكايات بتفاصيلها ومغزاها. انها رواية تبحث قليلاً جداً في ما قيل وورد في الكتب وتنتقد شيئاً منه، كقصة تفضيل هابيل على قايين واندلاع العنف، ولكنها تبدو في النهاية محاولة للقول بأن الحياة هي صراع ومأزق والعنف جزء عادي منها منذ القديم حتى اليوم، حتى ان الانسان يعيش على اشلاء الحيوان الذي يقتله وعلى اشلاء اخيه الانسان ايضاً، وما من قوة روحية عليا تحكم هذه العلاقات. فيوحي الكاتب ايحاء غير مباشر بأن فكرته هذه هي نتاج خمسين سنة من العنف المعاش في بلاده، والذي سببه الظاهري وعد ديني، لا يزال يوقع الموت حتى اليوم في صراع يبدو ابدياً. الموت الفردي كما الجماعي حاضر بأشكاله المختلفة في الرواية، يصيب الصالحين كما الطالحين، كما يحصل في الحياة الدنيا، وليس من منتصر في النهاية غير الكائنات التي تأكل الجيف أو تُفكك الأجساد، وهي بشراهتها أشبه بشراهة العدم الى ابتلاع الوجود. والبقاء الوحيد بعد الموت هو ما يتبقى من الانسان في ذاكرة الاقربين، حتى الاندثار النهائي، لأن"ذاكرة الانسان... ذاكرته اقصر من دودة". ليس في الرواية زمان ولا مكان سوى تحديد مكان الشخصية آنياً عند جذع شجرة أو في قرية مبنية بيوتها بالحجارة، لأن المكان المطلق في النهاية هو الموت، وهو نوع من"خروج كامل من مكان"، والزمان المطلق يبدأ منذ بدء الوجود حتى الاندثار، وما بينهما ليس سوى مأزق"كان الانسان قد دخله لحظة ولادته... و توقيت خروجه من المأزق توافق وتوقيت خروجه من حياته". والحياة كلما كانت عملية ومتحركة بدت انها الحياة الحقيقية، في مقابل حقيقة الموت التي تتألف من مشاهد الانحلال المقرفة المقززة، اما التأمل والتساؤل عن الحياة لادراكها ومحاولة فهمها، فهما لا يوصلان الى شيء، وكل محاولات احد ابطال الرواية لم تفلح"ليُدرك"."يتململ مغمضاً عينيه، ويتململ... ولا يُدرك". في الرواية نوع من نقض لكل التجارب الروحية التي انتجتها البشرية حتى الآن، وهو ما يخفيه الكاتب ربما تحت ستار الغموض الذي يغلف قصته. فاللغة التجريبية وتشرذم الاحداث والاخراج الفني، كلها عناصر خدمت الغموض الذي يريد اضفاءه مع الحفاظ على المغزى في قلبه. وهي ان اضفت على القصة المسحة الفلسفية، فإنها لم تصل بها الى مصاف القصص البسيطة - العميقة التى تُعتبر معلماً ادبياً، لذلك يمكن اعتبارها خطوة على طريق ما سينتجه الكاتب لاحقاً من نتاج ادبي قد يحقق التوازن"بين المعيش والمجرد، وبين التفصيلي والمحلوم به"كما يقول الناقد محمد برادة الذي قدم الرواية. قد تنذر هذه الرواية بالاندثار أو تعيشه حتى، على انه واقع، ولكنها في النهاية خلاصة صراع داخل نفس حساسة متمردة ونتيجة معاناة طويلة بين المعيش والمأمول، وبين حدود الجسد والرغبة في الذهاب الى ابعد من حدود الذات.