يقول صبري موسى في رواية فساد الأمكنة "ما فائدة الرحيل يا نيكولا ما دمت تحمل ذاتك أينما حللت" تركت خلفك الأطلال، ماذا عن الذكريات تركت خلفك الليالي ماذا عن السهر، تركت خلفك الأحضان ماذا عن الشتاء تركت خلفك العيون، ماذا عن المرايا تركت خلفك الرسائل، ماذا عن الحنين تركت خلفك العالم، ماذا عن قلبك أولئك الذين يرحلون دون وداع، تلاحقهم خطيئة الوداع إلى الأبد. سيعيشون غرباء في دواخلهم، كلما أشعلوا شمعةً في الليل سيزدادون ظلمة. ستعاقبهم الليالي بالسهر وتعاقبهم أرواحهم بالذكريات، ما أصعب الكتابة يا صديقي، ما أصعب آن تواجه نفسك بمفردك، ما أصعب أن تواجه كل هذا العالم بداخلك. ذكرياتك، أصدقاؤك، الناس الذين تحبهم وأبناء الجيران، زملاء الدراسة، صديقك المتنمر عليك في طفولتك، معلم المدرسة، ضحكات أمك، معاركك مع أخيك، صوت أبيك، خيباتك، انكساراتك، أفراحك، كل هذه العوالم المتداخلة، تقف أمامها شاهرًا قلمك لا تدري أيهم تطعن أو لماذا تكتب ويبدو أن الأمر كما يقول صديقي "الكتابة قبرٌ مفتوح، وبإمكان الجميع أن يشاهدون تفاصيل موتك يوميًا" ولكني أرى الكتابة غوصًا إلى الداخل، إلى أعماق الإنسان الأعماق السعيدة لا يمكنها إلا أن تنتج نصا سعيدًا، والأعماق الحزينة لا يمكنها سوى أن تنبت النصوص الحزينة. أنا مشوش.. نعم مشوش، ولكن لماذا؟ لقد مر وقتٌ طويل حتى أدركت أن السلامة في البعد، والغنيمة في العزلة وأن أعظم صديقٍ من الممكن أن يحصل عليه الإنسان في حياته هو "الكتابة" لأنه لن يجد للخيانة طريقًا ولا للغدر سبيلاً ولا للضغينة مكانًا في حياته. دومًا هناك عبارةٌ مدونة على مرايا المركبات "الأشياء الظاهرة في المرآة تبدو بصورة غير حقيقية" ولكن ليست المرآة وحدها لا تظهر الأشياء على حقيقتها، بل كذلك الكتابة مهما ابتكر الإنسان من لغات عديدة، ومهما ابتكر من ألسنة مختلفة ومهما ابتكر من كلماتٍ عظيمة وكثيفة ولكنه لم يبتكر كلمة أعظم من كلمة أمي.