في مستهل كتابه لماذا نكتب Why write يتساءل الناقد والأستاذ الجامعي المعروف مارك ادمنسون Mark Edmundson عن جدوى الكتابة في زمن تحولت فيه العبارة المكتوبة من وسيلة للتعبير والبوح الجمالي إلى أداة للتسلية الممجوجة الممقوتة. لماذا نكتب ونحن نعي أن الكتابة اليوم لم يعد لها ذلك التأثير الكبير بعد أن أزاحتها الصورة المتحركة التي تتدفق عبر أقنية المعلوماتية الحديثة، من يكتب اليوم وقد أصبح العالم كله في قبضة منصات رقمية تقذف بطوفان من المحتوى الباهر الذي ينساب عبر أجهزة بحجم الكف؟ لماذا نكتب ونحن نعي أن رفوف المكتبات تنوء بالمئات من عيون الأدب العالمي وخلاصة التجربة الإنسانية التي لن نستطيع مجاراتها؟ أي شيء يمكن أن نكتبه بعد أبي الطيب المتنبئ وشكسبير وتشوسر ونجيب محفوظ وهمنغواي تولستوي وديوستوفسكي وفيكتور هوغو وغيرهم؟ لماذا نكتب والكتابة صنو الوحدة وربيبة العزلة، وهي-أي الوحدة والعزلة- ليست بالضرورة دلائل على الإبداع والنبوغ بل قد تكون علامات على وقوع الإنسان في شراك المرض والاعتلالات النفسية؟ ومع كل تلك الحقائق التي تدفعنا بعيداً عن الكتابة إلا أن ثمة ما يجعلنا نتغافل عن كل ذلك ونتشبث بها ولا نتخلى عنها، الكتابة حاجة إنسانية نبيلة تماماً كالحاجة إلى الغذاء والهواء والتوقف عن ممارسة فعل الكتابة هو بمثابة إعلان عن توقف البشرية عن السير في دروب الرقي والتقدم، الكتابة وسيلة من وسائل توسيع مدارك العقل وصقله وقد تساوي في أهميتها أهمية القراءة حيث نرى كيف يستطيع الكاتب تنظيم الأفكار وترتيب المفاهيم وفك الغموض وإجلاء اللبس، القلم (أو لوحة المفاتيح) وسيلة لتنظيف دماغ الإنسان من الفوضى التي تستشري نتيجة لإيقاع الحياة المعاصرة السريع من جهة وكذلك نتيجة لفيض المعلوماتية الذي يتدفق كطوفان هادر من كل حدب وصوب. الكتابة أيضاً فعل محاسبة للذات، إننا نكتب ونطلق لأنفسنا العنان ولا نعبأ بما يكون هناك من عثرات وهفوات وزلات، ولكن في لحظة فارقة نقرر أن نتوقف ونعود القهقرى نراجع ونصوب ونعدل ونظيف ونحذف. إن مجرد التوقف وإعادة النظر في أمر سطرناه يسمو بالنفس الإنسانية التي قد تعتقد لوهله أنها فوق الهفوات ومنزهة عن العثرات، إننا بفعل المراجعة والتصويب نجد في الكتابة وإعادة الكتابة فرصة للتأمل العميق والتفكير الدقيق وهي مهارات يحتاجها الإنسان المعاصر الذي يستنكف من كل ذلك وهو يطارد وهماً كبيراً اسمه الكمال. قد يعتقد البعض أن القول إن الكتابة تجلب السعادة نوع من الهرطقة والتجديف لا أساس له، ولكن ثمة دلائل كثيرة تشير إلى أن الكتابة نافذة مهمة للبوح ووسيلة فاعلة للتخلص من التجارب القاسية وطريقة سهلة وميسرة لطرد الأفكار السلبية التي تطارد للإنسان، يسرد بني بيكر PennyBaker في كتابه «البوح Opening up» أدلة دامغة على نجاح الاستشفاء بالكتابة من خلال النتائج التي حصل عليها إثر إجرائه سلسلة من التجارب المعملية على أشخاص مروا بتجارب قاسية وصدمات نفسية رهيبة، كانت الكتابة بمثابة شمعة من الأمل تبدد تلك الليالي حالكة السواد بالنسبة لهؤلاء. عند الشيخوخة يبدأ الإنسان في مكابدة آفة النسيان التي تزحف دون هوادة فتفتك بذاكرته وتشل حركته وعندها يبرز القلم والكلمة المكتوبة كأنها آخر الدروع التي نعتمرها لصد غلواء هذه الآفة أو دفعها إلى حين. إن جسم الإنسان يذوي وذاكرته تضعف وبصره يكف وقواه تخور وتبقى الكلمة المكتوبة التي سطرها هناك تتلقفها الأجيال جيلاً بعد آخر.