يظلّ (الشعر ديوان العرب وعنوان الأدب) كما قرّر أبو فراس الحمداني، وهو يحمل آمالهم وآلامهم ويعبّر عن خلجات نفوسهم عبر التاريخ المدون وغير المدون، والشعر بمختلف أطيافه وأغراضه وأنواعه يصدر عن نفوس شفيفة وأرواح مائيّة اللون ويخلق شيئا من المعجزة اللغوية والصورة الخيالية والانفراد البياني، ولهذا وغيره اختُلقت حوله الاختلاقات والاختلافات عن ماهيته وأسراره وأسباب حدوثه ووقوعه، ورُبط بالجنّ والمسّ وسميت بأفراده بعض الأودية والبقاع. ولو نظرنا إلى (شعر الشقر) وسبرنا أغواره لاتضح لدينا أن مرتاديه يتميزون بنوع متفرد من الإعجاز البياني في سرعة البديهة وفهم المعنى ودقة اللفظ ومجاراة الطرف الآخر في (البدع) حتى يكون (الرد) متوائما ومتّسقا مع البدع في ختام مفرداته وأبياته مع اختلاف المعنى المراد، وهذا النوع من الشعر يحتاج موهبةً خاصة ودُربةً دائمة حتى يتمكن الشاعر من مجاراة الشعراء الآخرين فيما يسمى (بالقارعة) وهي التحدي الأمثل الذي يثبت شاعرية شعراء الشقر من عدمها. ولشعراء الشقر طبقات مختلفة من حيث جودة الشعر وعمق المعنى وانقياد القافية ورباطة الجأش، منذ عُرف هذا النوع من الشعر في بلادنا قبل قرنين من الزمان أو يزيد. ولشعراء الشقر بمختلف الطبقات تجارب في أنواع أخرى من الشعر (كالفصيح والنبطي والقلطة)، وتتفاوت تلك التجارب بين القوة والضعف والسمو والتواضع حسب مقدرة كل شاعر وموهبته الخاصة. ولفت نظري ثلاث تجارب شعرية من الطبقات السامية في (شعر الشقر): التجربة الأولى: الشاعر الكبير عبدالله البيضاني، وهو من الطبقة الأولى في فن الشقر بل يكاد يكون في مقدمة الركب في هذا المجال، حيث بات مخلصا لفن الشقر ولم يتجاوزه إلى غيره من الأنواع الأخرى رغم مقدرته الكبيرة لو خاض غمار فني النبطي أو القلطة، ولكنه آثر الاحتفاظ بتجربته الشعرية الفريدة دون أن يتشتت في شعاب الفنون الأخرى، وكان له ما أراد من التفرد والتميز. التجربة الثانية: الشاعر الكبير الدكتور عبدالواحد الزهراني، ويعد من الطبقة الأولى في مجال شعر الشقر بل إنه ممن أخضع المفردة الشعرية إلى التجريب، وهو مناصفة مع الشاعر عبدالله البيضاني نقلا شعر الشقر إلى عوالم مختلفة من التفرُّد والخيال الإبداعي المجنّح، وأعتقد جازما أنهما أبقيا على حرارة شعر الشقر مدة نصف قرن قبل أن يميل في الآونة الأخيرة إلى البرود الشعري! ويضيف الشاعر الدكتور عبدالواحد الزهراني إلى رصيده محاولات عديدة في فن القلطة والنبطي بل إنه خاض غمار الشعر الفصيح بكل جراءة وتميز، صحيح أنها لا تلامس سقف تجربته في الشقر ولكنها ترتفع إلى مجايلة العديد من شعراء الفصيح في الوطن العربي بروعة التصوير واختيار المفردة وانتقاء الموضوعات. وسأختار نصين للشاعر عبدالواحد الزهراني يشيران إلى ما أرمي إليه من جودة الشعر وجمال المعاني. النص الأول: يوم المعلم د. عبدالواحد بن سعود الزهراني تدعو لك الحيتان في ظلماتها والطير حين يكون في كبد السما وإذا أتى ذكر النجوم ونورها فشعاعك الوهاج فاق الأنجما صنع الأباطرة الألى تاريخهم وصنعت تاريخا أجلّ وأعظما ما أهملت شأنَ المعلم أمةٌ إلا تداعى صرحها وتهدما يحكون عن أسد الملوك عبارة فتسيل أحداقي عليه ترحُّما شرف العبارة أن فيصل قالها: لو لم أكن ملكا لكنت معلما النص الثاني: راحة البال د. عبدالواحد الزهراني: اهدأ وعش مطمئنا لا تكن قلقًا فما السعادة إلا راحة البال وبحْ لذاتك واستكشف دواخلها لا تكترث بضجيج القيل والقال أما سئمت رحيلا للرحيل أما سئمت تبديل أغلال بأغلال ولتعتزلْ كلّ ما يؤذيك وابق كما أردت، أنت السعيد الواثق السالي وما التعلق في نسج الخيال سوى تكهُّنات وإرهاصات دجال والحقُّ والحظُّ والأخلاق غالية لكنّ لا يشتريها الناس بالمال التجربة الثالثة:الشاعر زعكان بن عيضة، وهو من شعراء الشقر الذين ثبّتوا أقدامهم في هذا الميدان منذ ظهر في سماء الإبداع، ويعدّ من الطبقة الثانية، حيث تفرّد بسرعة البديهة وروعة الرد، ولا عجب فهو عاش وتربّى في كنف والده الشاعر الكبير عيضة بن طوير فأخذ عنه بعض الملامح الشعرية الفريدة. وله تجربة في ميدان الشعر الفصيح تشير إلى تميزه في هذا الفنّ لو حاول أن يخلص له ويزيد من قراءاته النوعية. قصيدة الشاعر زعكان بن عيضة: طار الحمامُ وطار الحلمُ بالأملِ وأثقلت ظهرك الأحمالُ يا جملي يا صاحبي شاخت الأطياف وانصرمت والذكريات مع الأعماق لم تزلِ لا تسأل الدمع إذ جفت منابعه أو تسأل العين عن حلّي ومرتحلي أو تسأل الريحَ عن وعثاءِ سفرتنا يا أيُّها السائل المفقود لا تسلِ دع السؤال وشدّ الرحل منصرفاً مات الوقوف على الأطلال من أزل إني وإنّ خليط التيه في عجب من انتظارٍ ومن يأسٍ ومن ملل عن مقتضى الحال والأوضاع عن حدث أحدث النخل والأنسام في وشلِ قد قلت للوقبة الشّماء وا أسفي لم يدركِ الحظُّ لا حلمي ولا أملي