كان في حارتنا القديمة امرأة مسنة فاضلة لكنها مصابة بما يشبه الوسواس مذ بلغت الأربعين، خاصةً حول صحتها، وكان الأطباء وقتها قلة، لكنها حزمت أمرها وراجعت طبيبا قال لها إن ضغطك مرتفع، فزاد وسواسها الموجود أصلًا، وصار حديثها عن الضغط وارتفاعه يتكرر لحد تندر الآخرين، بل وصل بها الأمر وهي فوق السبعين أن تحمل معها مرآة صغيرة فإذا رأت طفلة تلعب في الحارة قالت: تعالي! ثم أخرجت مرآتها وخفضت قامتها ووضعت وجهها بجانب وجه الطفلة ذات السنوات العشر ثم تأوهت وولولت وقالت: وجهي أصفر شاحب ووجهك ناقع فيه الدم! أنا مريضة لازم أراجع الدختور! ثم مشت وهي تحوقل وتولول! كأنها تريد أن يكون وجه أم سبعين مثل وجه أم عشرين، وهذا دأبها مذ وصلت الأربعين، كل أحاديثها شكوى عن صحتها وارتفاع ضغطها وصفرة وجهها، قضت أربعين سنة من عمرها هذا حالها لاتهنأ ولا يرتاح لها بال، ثم انتقلت لرحمة الله وهي فوق الثمانين لم يصبها مرض جسدي قوي أبدًا، لكن عمرها ضاع في التوهم والتوجس والحديث عن ارتفاع الضغط من ساعة ماذكر لها الطبيب أن ضغطها مرتفع، مع أنها لا تدري ما هو الضغط ولا كيف تتجنبه أو تعالجه، بل وجدته شماعة لنفث وسواسها الذي دمر حياتها ونفّر زوجها منها، وأزعج أهلها وجليساتها، وجعل عمرها الطويل رهين الوساوس حبيس الأوهام.