يمثل الفن التجريدي اختزال الأفكار وتشكيلها بالخصوصية اللونية، والتخلص من كل آثار الواقع والارتباط به، لتتمايز التعبيرية التجريدية ب»قوة الانفعال» و»التجريد الغنائي»، ليصبح عالم اللوحة عالما خاصا، واسترسال في تعميق الفكرة، انطلاقا من الصلة المباشرة بالمادة وتحويلها إلى نتاج فني، لتتحول الأشكال الحرة المحفزة على الإبداع في البيئة الجاهزة إلى صور فنية بفعل الخيال، يتوغل فيه المشاهد للبقع اللونية والبروزات والتجاويف، في أعماق صورة الإيهام غير المتعمدة. رائد الأحمري.. الفطرة المفاهيمية وتوجد العديد من الرؤى الفنية الحداثية الشابة في الحركة الفنية السعودية ومنهم: الفنان «رائد الأحمري» حيث تفصح أعماله الفنية عن ترجمة ومعادل موازي لشخصيته، والإفصاح الفطري لمفاهيمه الباطنية، التي تنبثق من تأمل الطبيعة كأعمال تأملية تجريدية مستوحاة من تراكيب الطبيعة، كأطروحات فنية ذات أسلوبية حداثية وحضور متمايز لفنان حالم يدشن عوالم لونية إيقاعية، لتفيض بطاقات شعورية أثراها التجريب المستمر، لتدشين تكوينات متحررة حيوية فاعلة، تحتفي بدينامية التعبير، لتشكل حالة ملهمة تدفع نحو استثارة مخيلة الجمهور. لتنطلق مفهومية أعماله الفنية نحو دمج الطبيعة الخارجية بالطبيعة الجوانية للذات عبر عوالمه النفسية، والتي تنصهر مع عناصر الطبيعة، لتصطبغ أعماله بدرجات من الاختزال والتخيل التجريدي والترميز تؤكدها حلول المساحات والكتل والخطوط والملامس والطبقات اللونية، التي تلعب أبعادا درامية وبصرية تدفع بأحاسيس أسطورية، تعلو بالفكرة إلى الأسلوب التجريدي. لتعكس بذلك أعماله الفنية تصوره وعالمه الخاص بالتراكيب والمعالجات اللونية الثرية بالتناغم في علاقات الشكل، والبحث نحو إيجاد صياغة للعلاقة بين المساحات والكتل والأشكال المرمزة على سطح الأعمال الفنية، والتي ميزت إبداعه الفني. وشكلت تجارب «رائد الأحمري» قالبا فنيا مغايرا، ومحفزاً لإثارة الاتجاه المفهومي في الفن البصري المعاصر، بما اشتملت عليه من تكوينات حداثية فكرية تنحو عن الطرق والمعالجات الفراغية التقليدية، وتؤسس مساراً عضوياً يحمل معه قيمة رمزية شمولية مكثفة تتعايش فيها العناصر بقيمها الفنية، وتكون عاملاً مؤثراً في إدراك المشاهد وتفعيل مدركاته الحسية تجاه الرسالة التعبيرية والترميزية، في ديناميكية وتوازن متناغم يجمع بين «الأشكال والكتل المتقاربة» والتي غلفها ببعد تعبيري باستخدام ضربات الفرشاة والسكين، في تدليل على علاقة عميقة بين الفنان وموضوعه، ويترجم المتلقي تلك الكتل والتراكيب من خلال رؤيته ومدركاته وثقافته، وفك شفرات تلك التراكيب البنائية وفلسفتها. وتسطير لغة فنية حداثية تتشكل عبر توظيف مساحات وكتل لونية سيمفونية على أسطح الأعمال بما يتسق وفق رؤية وفهم منضبط للمعنى الدلالي البصري لكل لون، مدعومة بالثراء اللوني، والخصوصية اللونية التي تتسق مع الاسترسال في تعميق المفهوم. عيدة الزهراني.. من الحنين إلى الماضي بينما تنطلق النستولوجية في أعمال «عيدة الزهراني» من الحنين إلى أحداث وذكريات وتفصيليات من الماضي، واستلهام تلك التداعيات والأحداث العابرة في عبر حلول بصرية اعتمدتها الفنانة في تجاربها الفنية التي استحضرت من خلالها طبقات لونية عدة متراكبة متتالية نسجت منها أسطح أعمالها الفنية، لتتكشف مستويات سردية حكائية تقص وتستعرض أحداث وذكريات بيئية سابقة في الزمن السالف، والطاقة الحنينية الجارفة إلى هذا العالم البريء، لتصدير مستجدات تلخص أثر الزمن وفعله على السطح. لتسطير مذكراتها الشخصية من خلال أعمال تستعرض عالما مستجدا يدفع بذكريات وأحداث بمنتهى الصدق بعيدا عن التصنع الحلول الجمالية، عبر ذاكرة تصدر علامات تدوينية وإشارات ورموز من الماضي لتعرض على الجمهور، بمفردات مترابطة متسقة السياقات، لتزاوج في تكويناتها بين حكايات لأحداث ذكريات سالفة من خلال استرسال رومانسي يعززه التلخيص التبسيطي. وما يميز ذلك من انساق ومخزون دفين من المرئيات، واستدعاء مخزون الذاكرة وما ترسب في مخيله الفنانة عن تلك الطبيعة، وإعادة تحوير المرئيات داخل انساق بنائية مستحدثة تعزز الفعل الإبداعي للفنانة، وتعضد الفكرة العامة للعمل الفني ورمزيته. حيث عمدت الفنانة «عيدة الزهراني» إلى توظيف درجات اللون بأسلوبية اختزالية ترسم أجواء غامضة حالمة، يميزها رهافة النسق العام الرابط بين أجزاء العمل بصورة أثيرية محلقة، في كل متسق يعضد فلسفة العالم الرومانسي الغنائي الترميزي، ويحتفي باختزال التفصيليات عبر تلك الكتل اللونية، والتهشيرات المتواترة، لتصدير قيم ديناميكية مضافة للتشكيل البنائي للعمل الفني. عبدالله صقر.. البعد الإنساني واهتم الفنان «عبدالله صقر» بالتعبير عن البعد الإنساني، حيث شغل العنصر البشرى بإحساساته العاطفية وإيماءاته المختلفة مساحة كبيرة داخل المخيلة الإبداعية للفنان، لتصبح الصورة الإنسانية مشحونة بالطاقة التعبيرية والأبعاد الرمزية والتلميحات المفاهيمية، والجاذبية التي تعمق لدى الجمهور الشعور بالتعاطف والتفاعل والقرابة تجاهه. وجاءت أعماله الفنية لتدلل على أنه بجانب هذا الشغف المولع بالدقة البنائية والتركيب المنظم والقدرة الحداثية على ترجمة الملامح التكوينية للعمل والمجموعات اللونية المدهشة، وترجمة قدراً كبيراً من المشاعر والأحاسيس مثل القلق والغضب والسعادة والفرح والاندفاع بصورة قوية، ومن أجل تجسيد هذا الجو الدرامي للعمل تخلى الفنان عبدالله صقر عن جميع التفاصيل التي لا تخدم السرد الفني وحرصاً على وحدة التصميم. حيث اتسمت أعمال «عبدالله صقر» بتجانس تكويناتها ودقتها التقنية، وبالمعالجات الواقعية الرومانسية للصياغات المتزنة فى هدوء وانسيابية الإيقاع الخطى، والاعتماد على تباين الدرجات الضوئية، لتمثل أعماله انفعالا متجسدا في خيال وقور وحميمية، وصياغات حداثية تنم عن هيئة تصويرية ناضجة معبأة بإحساس حركي مفعم. * الأستاذ المساعد بقسم الفنون البصرية - جامعة أم القرى عمل الفنان عبدالله صقر عمل الفنانة عيدة الزهراني