عند مطالعة مشهد ما بعد الحداثة التشكيلي السعودي، يندفع إلى الأذهان عدد من الرواد المبدعين، وفناني الطليعة، أصحاب القيم المضافة والأطروحات الفنية ذات الجوانب التنويرية الحداثية، حيث السعي نحو تحرير الفن من روابطه بالطبيعة والتمثيل، وفي مقدمة هؤلاء المبدعين الفنان "فهد خليف"، والذي عكف طيلة مسيرته الفنية مستغرقاً ومتبحراً في استكشاف موضوعات تعضد "الذاكرة المكانية والهوية والروحانية"، وطرق تتبع آثار ذلك في مجمل أعماله الفنية، والعناصر المستقاة من طبيعة الفنان الداخلية، و"التشكيلات البنائية "، والارتكال إلى سيكولوجيا الألوان والأشكال الموحية المعبأة بأجواء وطقوس روحانية، وإعلاء الأصالة، وتوظيفه لتقنيات تشكيلية تصدر وتعزز أجواء شاعرية شعرية. وامتلك "فهد خليف" القدرة الفكرية على التحدث عن موضوعاته ومعارفه بصوره أثيرية بليغة محلقة، يعتمد تركيبها على تطوير استعارة دقيقة ومختصرة تعكس مشاهد حكائية، والتي تعمد إلى عدم إجهاد المساحة المرسومة بحثاً وراء تقنيات الأداء، مع التعبير عبر أقصى درجة من التركيز للوصول إلى الاقتضاب النهائي، والهيئة القصوى المحكومة بصرامة حيث تشكلت رؤيته ومنهجه الفني الخاص منطلقاً من "التجريدية التعبيرية" التي يغلفها بتلميحات ترميزية تسطر عما يجول بمخيلته الإبداعية ومحاولاته في إيجاد معادلات بصرية معززة بانفعالات وأحاسيس ومشاعر، لينحو بعيداً عن تقليد المظهر الخارجي لعناصر بيئته، والغوص في أعماق الداخل "الجواني" لما تفصح عنه، وعرض اهتمامه بعناصر محددة تعكس خصوصية وجمالية بيئته وتراثه السعودي، من بيئة معمارية، وخيل، ونبات، ونخيل، ومراكب، وشخوص، وعناصر زخرفية، وحروف وكتابات عربية بخط الثلث. فحينما يقوم الفنان بتحرير الدلالات القديمة من سياقها العرفي وتغيير مدى الحقيقة الحسية التي كانت محض يقينية، بهدف مشاهدة هذه المفردات مجردة من موضوعها كعلامات بصرية مجردة، ومحاولة فصل الصورة الحسية عن المدرك البصري وإحلال العلامة مقابل إلغاء علامة، وزرع منظومة اتصال جديدة. وعمد "فهد خليف" لتوظيف الخيل العربي ضمن عناصره الفنية كمعادل استحضاري للقوة والبطولة، مجاورا لعناصر رئيسة وفي المركز الرئيس لبؤرة العمل الفني، من خلال أطروحات فنية متنوعة يحددها مفهوم العمل وقيمه الجمالية والتعبيرية، فصيغت في وضعيات وتعبيرات متنوعة متحركة ساكنة هامسة جهورة مع تحليلات قوسية عبر انسيابية ورشاقة ورقاب ممتدة ملتوية تشحن الفعل العاطفي لعناصر العمل، روحانياً شفافاً بالأبيض، وصلداً حاداً قوياً بالدرجات الداكنة، متجهاً برأسه لأسفل لتدليل الانكسار والحزن، تعضد صياغتها داخل فراغات شاسعة تدعمها المخططات اللونية الساخنة والباردة وتراتيب الدرجات اللونية ومكملاتها وشدات اللون وطاقته الداعمة لمفهوم العمل، مع طلاسم وتلميحات رمزية وعناصر زخرفية وخطية كتابية فوق أبدان تلك الخيول تعزز الأجواء الأسطورية والرومانسية، وإعمالاً لأهمية النصوص والكتابات الحروفية داخل العمل الفني كوسيط له قيمته الفنية، لم يتقيد الفنان في هذا توجهه المفاهيمي بحدود ملزمة لهذه النصوص، أو توظيفها كمجرد وسيط لشغل الحيز الفراغي، بل صيغت وفق دلالات جمالية وتعبيرية دون أية ارتباطات عقلية، مع الاستعانة بطرز وأحجام مختلفة من الخطوط وتنويع المسافات الفاصلة فيما بينها، لتتحول داخل هذا النسق الإدراكي إلى مفهوم يتفاعل ويتوحد مع الفراغ، ويؤسس مساراً عضوياً يحمل معه قيمة رمزية شمولية مكثفة تتعايش فيها العناصر بقيمها الفنية، وتكون عاملاً مؤثراً في إدراك المشاهد وتفعيل مدركاته الحسية تجاه رسالة العمل الفني. هذا إلى جانب تهيئة أجواء مفرغة من الهواء تطفو في فضائها شخوص تتسم بالحياة والحيوية، بعضها تغلفه ملامح غامضة، والآخر تدفعه طاقات داخلية وروحانية ليتحاور مع طيور اسطورية وتداعب أقماراً مشعة، لتشكيل ذلك الطقس الساحر، واستعراض الحقيقة والفكرة الكامنة وراء الأشياء المرئية، تهيم عناصر التصميم ومفردات الطيور المحلقة مع عالمها الجديد ذي النغمات الحالمة والتمويهات اللونية الشاعرية الممتلئة بالمرح والسعادة، ومراقبة لعوالمها الأرضية وبيوتها التي تسكنها من أعلى لتعرض على المشاهدين من خلال نافذتهم الذاتية. البعد السينتوغرافي عند "فهد خليف": تقوم "السينتوغرافيا" على بحث علاقة الإنسان بالفضاء المسرحي، وعناصر الخلفيات الثابتة والمعلقة، والملابس والأزياء ووضع البناء. وبحثاً عن زوايا محورية تبلور التجربة المفاهيمية للفنان، تم صياغة عدد من الأعمال الفنية والتي اتكلت في توجهها المفاهيمي إلى منظور البعد السينتوغرافي، واستلهام القيم الفنية التشكيلية في المسرح، لتصبح محركاً شاحذاً للقريحة الإبداعية أثناء التخطيط وبنائية العمل لاستحداث مدخلات مستحدثة تخاطب الجمهور بشكل مخالف، وتوجه فعلي للقراءة والتلقي لديهم من خلال هذا المنظور، وتوزيع الشخوص الرئيسة في المقدمة بحجم كبير، ثم ترتيب "الكورس" منفردة أو في جماعات في الخلفية أمام عناصر الديكور المزخرفة بحجم أصغر، وذلك بهدف توجيه حركة العين على السطح وفق أولوياته التشكيلية والتعبيرية، وتبعاً لقوة تأثير اتجاهات الخطوط والعناصر، وتحقيق نوع من العمق الديناميكي. وبالنظر لفكرة الإطار المهيمن على منظور عوالمه المرئية نجد أن مثله في ذلك مثل السينمائي الذى ينظر إلى العالم من خلال عدسته التصويرية، فنجد الإطار في أعماله الفنية مادياً في حدود العمل الخارجية، ووهمياً مرسوماً أو ملوناً كنافذة لها عمقها المنظوري، نرى من خلالها عناصرها ذات الحركة الدؤوبة والتلميحات التراثية، وكذلك عناصره الراسخة والمعبأة بمغازٍ وتلميحات تراثية ومستقبلية في آن واحد. هذا إلى جانب الدفع بمناطق الإضاءة المباغتة وغير المرتقبة (شديدة السطوع) من مصادرها المفاجئة داخل الأجواء المظلمة والأقل استنارة، كنوع من الإثارة الفنية والحداثية لدى المشاهد، وإبراز عناصر محددة وترتيبها داخل العمل الفني، وتطويع تلك الإضاءات وإسقاطاتها اللونية لتحدث نوعاً من التمويهات والخداعيات البصرية للعناصر البنائية المرسومة. التعبير الانفعالي وتأكيد الفعل الحركي: من أكثر سمات أعمال "فهد خليف" خصوصية، تلك النزعة التعبيرية والطاقة الانفعالية الكامنة والناتجة من توظيف خصائص فن التصوير الزيتي والرسم الحر السريع بخطوطه المتشابهة والمتشابكة المتدفقة، ذلك التوجه نحو التمرد التجريبي الذي يهدف إلى إثراء العلاقات التشكيلية داخل العمل الفني من خلال إمكانات الخامة كوسيط تعبيري، وشاحذاً قوياً في إلهاب خيال الفنان وتعبيره المتحرر دونما قيود أو مراقبة عقلانية، وحتى تتحقق الفكرة من خلال موضوع العمل وعبر ضربات الفرشاة والتي تعطي الإحساس بمدى عمق المعنى الصياغي. لتراعي بذلك أعمال "فهد" القيم الفراغية، فهي ليست مسطحة، وإنما تطرح تقدماً مساحياً عبر العمل أكثر من كونها على السطح مباشرة، فالمشاهد لتلك الأعمال يستطيع أن يتلمس هذه الخطوط والتي تبدو وكأنها معلقة على مسافة ما مع بعضها ومع فراغها الغامض الذي يكتنفها، هذا إلى جانب التجريدات التعبيرية متفجرة الطاقة عضوية السمات للتعبير عن الانفعالات الباطنية حتى يحصل على أقصى درجات الفعل الحركي من خلال الألوان المتباينة، واستثمار التراتيب الكتابية لتندفع خلال تلك الاتجاهات الحركية التي أحدثتها المخططات اللونية، لتساهم بقيمة حركية مضافة داخل أعماله الفنية. النزعة الموضوعية والاستخدام التجريدي الخالص للون: وعلى الرغم من تمسك الفنان بمفرداته التشخيصية المعبأة بكافة الانفعالات والتعبيرات التي تعج بها الشخصية الإنسانية، إلا أنه دأب على تقديم عدد من التجارب الفنية التي تتجه ناحية النزعة الموضوعية، والاستخدام الخالص للون، حيث تم توظيف الأشكال والعناصر، والاستعانة بالكتابات والحروف، والنباتات والطيور. فالفنان يعبر عن شعوره نحو الناس والأشياء الأخرى بالطريقة التي تعبر بها الموسيقى عن أحاسيسه أي باستخدام البدائل المجردة، فيترجم عواطفه وانطباعاته في ألوان مقصودة لمغزاها لا لما فيها من محاكاة، كنوع من التأكيد على التوازن الفعلي بين الفكرة والأداء من خلال أسلوب يتسم بالبساطة. * الأستاذ المساعد بقسم الفنون البصرية - جامعة أم القرى